والواقع أن الحواجز التي كانت تقف حائلا بين ڤاجنر وبين كوزيما لم تكن قوية إلى الحد الذي تبدو عليه لأول وهلة؛ فهناك أولا «مينا» زوجة ڤاجنر، وهذه قد أراحت الجميع بوفاتها في يناير سنة 1866م. وهناك ثانيا «ليست»، أبو كوزيما، الذي تظاهر في البداية بالحزن احتراما منه لرداء القسس الذي أصبح يرتديه، ولكن كان من الصعب أن يتصور أحد صدور معارضة حقيقية من مثل هذا الأب الذي لم تطلب منه ابنته سوى أن يسمح لها بما استحله لنفسه مع عشرات النساء. وكان ڤاجنر أدرى الجميع بنفسية ليست؛ فحين تقابلا، لم يتحدثا في الأمر مباشرة؛ وإنما فتح أمامه الصفحة التي دونت فيها مقدمة «أساطين الطرب»، وجلس ليست ليعزف، بينما وقف ڤاجنر يغني، وأتمت الموسيقى التفاهم بين الرجلين. وعاد ليست وهو يقول: «إن قواعد المجتمع وتقاليده المعتادة لا تلزم إلا الناس العاديين، أما ڤاجنر فإنه يخلق دررا وجبالا من الماس!» أما العقبة الثالثة، وهي بيلوف، زوج كوزيما، فلم تكن جدية بدورها؛ إذ يبدو أن صاحبنا هذا لم يكن حريصا كل الحرص على زواجه، أو أنه كان يشعر بتضاؤل تام لشخصيته إزاء ڤاجنر، بحيث طغى عليه احترامه «المهني» له، ولم يستطع أن يقف في وجه إرادة هذا العملاق الموسيقي الذي يعرف بيلوف، أكثر من غيره، قيمته الحقيقية. وهكذا فإنه عندما علم من ڤاجنر وكوزيما بحقيقة العلاقات بينهما، تراجع ولم يحاول المقاومة، ثم أصبح رضوخه ضروريا بعد أن أنجبت كوزيما من ڤاجنر في سنة 1869م ابنا كان الموسيقي الكبير يترقبه، ولم يجد بيلوف في النهاية بدا من أن يكتب إلى كوزيما، في مذلة عجيبة، يقول: «لقد آثرت أن تهبي حياتك ونفائس قلبك وروحك لشخص يسمو علي في كل شيء. وأنا لا ألومك على هذا، بل أشهد بحسن تصرفك في كل ما فعلت. وإني لأقسم لك أن الفكرة الوحيدة التي تجلب لي السلوى وتنير ظلمات نفسي من آن لآخر فتخفف عني آلامي، هي أن كوزيما - على الأقل - سعيدة.» أما علاقته بڤاجنر، سارق زوجته، فكانت أعجب وأغرب؛ إذ إنه ظل على صداقته واحترامه له، واستمر في عزف موسيقاه بكل فخر وإعجاب ... إنه نمط عجيب من الرجال، لا نستطيع، نحن أهل الشرق، أن نفهمه!
وفي يوليو سنة 1870م، أعلن رسميا طلاق كوزيما من بيلوف، وفي الشهر التالي تم زواج ڤاجنر بها، وتعميد ابنه «زيجفريد». ولم يكن هناك وقت أكثر ملاءمة لهذا الوطني الألماني المتعصب؛ فقد اقترن احتفاله بزواجه بمظاهر الانتصار الألماني على فرنسا في الحرب السبعينية، وهوى عرش نابوليون الثالث بعد مولد ابنه بفترة، مثلما هوى عرش نابوليون الأول بعد مولده هو بفترة قصيرة أيضا، واقترن مولد الأب بانتصارات للأمة الألمانية التي كان ڤاجنر من أشد أبنائها تعصبا لها. •••
وخلال هذه الأحداث كان ڤاجنر يعمل بجد لإتمام العمل الأكبر الذي كرس له هذه الفترة من حياته، وهو عرض «تريستان وإيزولدة»، ورغم كل ما صادفه في حياته العامة والخاصة من متاعب، فقد نجح في إخراج هذه الفكرة المستحيلة إلى حيز الوجود. وهكذا رفع بيلوف عصاه في العاشر من يونيو سنة 1865م ليقود «تريستان»، وتم العمل الهائل الذي كرست له أعظم الجهود، وتحققت المعجزة، وأمكن أداء ما لا يمكن أداؤه، وعرضت «تريستان وإيزولده» بعد أن ظلت مهملة ست سنوات كاملة ... ولئن كان أولئك الذين حظوا بمشاهدة أول حفل تعرض فيه هذه الدراما الخالدة، وأحسنوا فهمها، قد ارتفعوا إلى أسمى درجات النشوة الصوفية التي يمكن أن تحققها الألحان، فإن ضعاف العقول والأذواق قد وجدوا فيها لغزا جديدا من تلك الألغاز التي يغرقهم فيها ڤاجنر واحدا تلو الآخر، ورأوا في ألحانها قمة الغموض والإبهام اللذين لا يزال ڤاجنر يوصف بهما حتى اليوم.
على أن الجو عاد يكفهر مرة أخرى عندما حان موعد تنفيذ المشروع الأكبر، وهو مسرح ڤاجنر المثالي، وإذا كانت الفكرة حلما جميلا ظل منذ وقت طويل يداعب ڤاجنر ومليكه، فقد كانت في نظر ساسة باڤاريا حملا ثقيلا على ميزانية الدولة المتواضعة، ولهوا باطلا لا يستحق كل هذا العناء. وهكذا تضافرت جهودهم لعرقلة هذا المشروع على قدر وسعهم، وأدرك ڤاجنر ذلك وأيقن أن مشروعه قد جلب له عداء الجميع، وتبينت له تلك الحقيقة بجلاء في فترة غادر فيها ميونيخ لأعمال خاصة، فقرر ألا يعود إليها، وكان تعليله البسيط لكل ما حدث هو «أن العالم لا يعرف كيف يعاملني؛ لأنه لم يصادف من قبل رجلا مثلي ...»
ولكم كان أسف الملك مريرا وهو يكتب إلى ڤاجنر يعتذر له عما حدث، ويؤكد له أن تلك الأحداث العابرة التي حدثت رغما عنه لا يمكن أن تؤثر في تقديره لفنه، وأن كل آثار ذلك العمل الذي اضطر إليه اضطرارا، ستمحى كلها في القريب. وهكذا افترق الصديقان؛ أحدهما يعلل الأمل بإمكان إصلاح ما أفسدته الظروف القاسية، وبقرب عودة منقذه ومخلصه في حياته الروحية المضطربة، والآخر يواجه مرة أخرى تلك الحياة القاسية التي لم تهادنه يوما، ويرى سعة الهوة التي تفصل بين العالم الواقعي وعالمه المثالي.
واستقر رأي ڤاجنر، بعد بحث طويل، على اختيار الإقامة في سويسرا، حيث اهتدى إلى دار هادئة تحف بها الأشجار الظليلة، وتطل على بحيرة واسعة بالقرب من لوسرن، وكان اسم الدار «تريبشن
Triebschen » وهنا فقط أحس ڤاجنر بالاستقرار الذي ينشده والهدوء الذي يتوق إليه، ليتفرغ لإنتاجه الفني الذي أعاقته إقامته الصاخبة في ميونيخ، ولحياته العاطفية الجديدة مع كوزيما، التي لم تصبح ملكا له وحده إلا هناك.
بايرويت ونهاية المطاف
كانت لا تزال أمام ڤاجنر مهمة كبرى، هي بناء مسرحه المثالي، الذي اعتقد أنه سيكون مدرسة الفن الصحيح في المستقبل. وفي خلال طوافه بالمدن الألمانية في عام 1871م شاهد ڤاجنر القصر العتيق في بلدة «بايرويت
Bayreuth » فأعجب به كل الإعجاب، وخاصة موقع منه على رابية مشرفة على ما حولها، فاستقر رأيه على أن يقيم هناك مسرحه المرتقب؛ على أن ذلك لم يكن السبب الوحيد لاختياره هذا؛ فقد وضع ڤاجنر مقدما عدة شروط لا بد من توفرها في المدينة التي يختارها لبناء مسرحه، فكانت بايرويت خير مدينة توفرت فيها تلك الشروط؛ إذ رأى أنها لا بد أن تكون مدينة لا يوجد فيها مسرح من قبل، ولا مياه معدنية؛ كي لا تجتذب في الصيف حشودا من الناس لهم هدف لا صلة له بالفن الرفيع إطلاقا. وكان من المستحسن في نظره أن تكون في قلب ألمانيا، بل في باڤاريا ذاتها؛ إذ أراد ڤاجنر أن يقيم في مدينته المختارة على الدوام، وهو لا يمكنه أن يحيا على الدوام إلا في باڤاريا. وتلك كلها شروط توفرت في بايرويت، وزاد عليها أنها أرض بكر في ميدان الفن؛ ففي وسعه إذن أن ينمي فيها فنه الجديد كما يشاء.
Неизвестная страница