وآثر ڤاجنر في نهاية الأمر الإقامة في تسوريخ ، حيث كان مورد رزقه الوحيد - في ذلك البلد الذي لا يعرف عنه ولا عن الموسيقى عامة الشيء الكثير - هو كتابة بعض المقالات الأدبية، ومن هنا اتصفت مجهودات ڤاجنر في تلك الفترة بالطابع الأدبي، وحاول خلالها أن يعوض ما فاته من الثقافة الأدبية، وخاصة الفلسفة التي طالما تشوق إلى الاستزادة منها.
أما مؤلفات ڤاجنر الخاصة في تلك الفترة، فكانت منها رسالتان عن «لوهنجرين» و«تانهويزر» قصد بهما إلى شرح إنتاجه الفني الخاص ونقل آرائه الجديدة إلى الجمهور، فكانت لهما قيمة كبيرة في توضيح نظريته الفنية وتبريرها، كما نشر كتيبات على جانب كبير من الأهمية، تجلى فيها الامتزاج واضحا بين ثورته الفنية والثورة السياسية التي كان من أقطابها؛ ففي رسالة بعنوان «الفن والثورة» نظر ڤاجنر إلى تاريخ الفن بأسره نظرة نقدية؛ فبعد إبداء إعجابه باليونان ودراماتهم، حمل حملة شعواء على الرومان؛ إذ كانوا جحافل صارمة لا تفهم الفن ولا تقدره، وهم الذين مهدوا الطريق لظهور المسيحية التي دعت المرء إلى ألا يفعل شيئا سوى الإقرار ببؤسه وشقائه، والانصراف عن كل مجهود يرمي إلى انتزاعه من قبضة هذا البؤس. ولكن الدم الجديد الذي يجري في عروق العناصر الجرمانية يعمل على محاربة الروح المسيحية، ويفتتح عهد الثورة، ويقضي كذلك على الفن الحديث السائد؛ إذ إنه فن تتحكم فيه الصناعة، وهدفه الأقصى هو جمع المال، ووظيفته الكبرى هي دفع الملل والسأم، وهي وظيفة لا تصلح إلا للبيئات الصناعية المتعبة المكدودة.
فليتحرر الفن إذن من تلك القيود المسيحية والصناعية التي شوهت الطبيعة البشرية وأفسدت نزعاتها، وليعد الفن إلى المسرح، مهد الفن القديم، وإلى الدراما اليونانية الخالدة، ولنكتف من المسيح بما نال من عذاب في سبيل البشر، ولنختر إلها يونانيا يعرف كيف يقودنا إلى الحياة الحافلة بالخيال السعيد.
وفي كتاب آخر عن «الأوبرا والدراما» يستعرض ڤاجنر تاريخ الأوبرا، وينتهي من ذلك إلى رأي صريح هو أن هدف كل أوبرا سابقة - باستثناء أوبرات موتسارت - كان إيجاد ألحان مقبولة للآذان، يمكن أن تستبدل بكلماتها أية كلمات، وليس لها من هدف سوى الترويح عن النفس؛ غير أن هذه الأغراض قد استنفدت، ولا بد من انقلاب حتى تحفظ الأوبرا من الضياع. وعلى الرغم من جهود فيبر، فإن الأوبرا الإيطالية التي تزعمها اليهودي «مايربير» - الذي أنكر جنسيته وقوميته - قد أفسدت كل اتجاه إصلاحي. وهكذا لم تعد الأوبرا فنا؛ وإنما ظاهرة تتغير تبعا لمقتضيات الذوق العابر، ولم يعد الشاعر إلا تابعا ذليلا للملحن الموسيقي، ولا يمكن أن تغدو الأوبرا فنا صحيحا إلا باستخدام كل الوسائل الممكنة لإذكاء الخيال، ومعنى ذلك أن تتحول الأوبرا إلى الدراما؛ أي تصبح فنا جامعا شاملا، ينطوي على الشعر والموسيقى والتمثيل والفن التصويري المسرحي معا في مركب واحد.
ولقد وجد ذلك الكتاب الأخير من المعجبين بقدر ما وجد من الأعداء الذين كانوا يدركون جيدا أن اتجاه ڤاجنر الجديد لو نجح لكان فيه القضاء المبرم عليهم، ومنذ ذلك الحين بدأت حملة أنصار الأوبرا الخفيفة، من فرنسية وإيطالية، على ڤاجنر، يحمل لواءها مايربير. أما أنصار ڤاجنر فقد أخذوا ينشرون في الصحف الصادرة في ألمانيا خاصة، مقالات تشيد بفنه وبآرائه الجديدة، وكان لتلك الدعاية الطيبة التي تزعمها «ليست» أكبر الأثر في نشر اسم ڤاجنر وإذاعة شهرته في القارة بأكملها.
وبعد رحلة استشفاء قصيرة طاف فيها ڤاجنر أنحاء سويسرا وشمال إيطاليا، عاد إلى مقره في تسوريخ ليجد أن تلك الدعاية قد أثمرت، وأن العروض أخذت تنهال عليه في طلب «تانهويزر» من برسلاو، وبراج، وفيزدبان، وغيرها من المدن. وهكذا انتشرت تانهويزر في ألمانيا بأسرها، وذاعت معها شهرة مؤلفها.
وفي خلال ذلك الوقت الذي أتته فيه الشهرة من بعيد، كان ڤاجنر عاكفا على مشروع ضخم، هو تأليف دراما رباعية كبيرة، هي «خاتم النيبلونجن
Niabelungen Ring »، بأقسامها الأربعة؛ وهي «ذهب الرين
Rheingold » و«الفالكيرات
Die Walküre » و«زيجفريد
Неизвестная страница