والصبر بلا مرحمة يكون معه القسوةُ. فهذه الرحمة حسنةٌ مأمورٌ بها، وإذا كان معها حزنٌ لم يكن به بأسٌ، وإن لم يُؤمرْ به، فقد قال يعقوب: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [يوسف/ ٨٤].
وفي البخاري (^١) عن ثابت عن أنس قال: دخلنا مع رسول الله ﷺ على أبي سَيْفٍ القَيْنِ، وكان ظِئْرًا لإبراهيم، فأخذ رسول الله ﷺ إبراهيمَ فقبَّلَه وشَمَّه، ثم دخلنا بعد ذلك وإبراهيمُ يَجُودُ بنفسِه، فجعلَتْ عينا رسولِ الله ﷺ تَذْرِفانِ، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنتَ يا رسول الله؟ ! فقال: "يا ابن عَوفٍ، إنها رحمةٌ". ثمَّ أتْبَعَها بأخرى، فقال: "إن العينَ تَدمَعُ والقلبَ يَحزَنُ، ولا نقول إلا ما يُرضي الربَّ، وإنا بفراقِك يا إبراهيمُ لمحزونون".
وفي هذا الحديث رُوي: يا رسولَ الله، أوَ لم تنهَ عن البكاء؟ فقال: "إنّما نَهَيْتُ عن صوتين أحمقينِ فاجرينِ" كما تقدم. ميَّز ﷺ ما لا إثمَ فيه أو ما يُستحبُّ من الرحمة والحزن والدمع، وما يُنهَى عنه من النياحة برفع الصوتِ والنَّدبِ وما يتبَع ذلك مما ليس هذا موضعه، إذ الغرض بيان معنى الحديث، وأن ما في حجة ابن عباس من رَفْع (^٢) التكليف عما ليس مقدورًا للعبد لا هو ولا سببُه يخالف الحديث.
بل قد بيَّن ﷺ الفرقَ بين النوعين، وما يُؤاخِذ الله عليه وما لم يؤاخذ، ولفظُ حديثِه: "إنه يُعذَّب ببكاء أهله" بالمدّ، أو "مَن نِيْحَ عليه