Реформирование юриста: главы о реформе юриспруденции
إصلاح الفقيه فصول في الإصلاح الفقهي
Издатель
مركز نماء للبحوث والدراسات
Номер издания
الأولى
Год публикации
٢٠١٣
Жанры
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُون وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٦٢ - ٦٨].
«فالشريعة إذًا شيء خاص بالجماعة التي تطبقها، ولا يمكن أن تمتد منها إلى غيرها إلا إذا امتزجت معها في عقائدها وفي أصول حضارتها وقواعد سلوكها فأصبحت على صورتها... والمهم أن القانون ينبثق من الجماعة ويمتزج بنموذجها النفسي، ولا يمكن أن ينتزع منها انتزاعًا ويفرض عليها قانون أجنبي عنها فترضاه وتتعصب له إلا إذا كانت هي قد فقدت حاسة وجودها الذاتي وإيمانها بمثلها العليا. نعم قد يوجد منها أفراد يتعصبون لأي وضع جديد نظرًا لاستفادتهم منه، أو لأنهم لم يعرفوا غيره، أو لمجرد بلادتهم التي تدفعهم إلى النضال في سبيل قضية غير قضيته».
[دفاع عن الشريعة، علال الفاسي: ٣٣]
1 / 7
شريعة لك فجرت العقول بها... عن زاخرٍ بصنوف العلم ملتطم
يلوح حول سنا التوحيد جوهرها... كالحلي للسيف أو كالوشي للعلم
غراء حامت عليها أنفس ونهىً... ومن يجد سلسلًا من حكمة يَحُم
نور السبيل يساس العالمون بها... تكفلت بشباب الدهر والهرم
يجري الزمان وأحكام الزمان على... حكم لها نافذٍ في الخلق مرتسم
دع عنك روما وآثينا وما حوتا... كل اليواقيت في بغداد والتُّوَم
وخلِّ كسرى وإيوانًا يُدِلُّ به... هوى على أثر النيران والأُيُم
واترك رعمسيس إن الملك مظهره... في نهضة العدل لا في نهضة الهرم
دار الشرائع روما كلما ذُكرت... دار السلام لها ألقت يد السلم
ما ضارعتها بيانًا عند ملتأمٍ... ولا حكتها قضاءً عند مختصم
ولا احتوت في طراز من قياصرها... على رشيدٍ ومأمونٍ ومعتصم
أمير الشعراء أحمد شوقي [الشوقيات: ١/ ٢٠٤]
1 / 9
المقدمة
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
هناك اتجاه واضح في الدراسات الشرعية والفقهية المعاصرة إلى الحديث عن تجديد الدين وتجديد الفقه، ووسائل ذلك ومعوقاته، وعن مظاهر هذا التجديد ومجالاته والجهود المبذولة في سبيله، والكثير من هذه الدراسات مفيدة نافعة، كما أن منها ما يخطئ في توصيف الواقع أو في معالجته، ويحصل في أحيان كثيرة أن يكون وصف حالة من الحالات العلمية بأنها من مظاهر التجديد أو من مظاهر الجمود راجعًا إلى تحكمات مزاجية أكثر من رجوعه إلى معايير علمية منضبطة ومحددة، وإذا ما تكلمنا عن تجديد الفقه على وجه التحديد فإن الفقه بأصوله وقواعده ونظرياته ليس علمًا جديدًا يفتقر إلى الضبط المنهجي حتى يستحدث له منهج في تجديده، ولفظة: (التجديد) ذاتها تدل على وجود شيء يجدد دون أن يستبدل به سواه، ومن هنا جاءت المقولة
1 / 11
المشهورة: (أول التجديد قتل الماضي بحثًا)، فالفقه له أصوله ومنهجيته التي تتطلب أن يكون من يمارس التجديد عارفًا بها؛ لئلا يستدرك عليها ما هو من صميمها أو ينتقد فيها ما ليس منها أو ينسب إلى متنها ما هو من هوامشها، والتجديد ما لم يكن متلزمًا بالتماسك الداخلي للعلم الذي كان به قيامه فهو تغيير وتبديل وليس تجديدًا، وبقاء الاسم وحده لا يغني شيئًا ما لم تكن أصوله وفلسفته باقية. وبعض من يستعملون اسم التجديد والإصلاح يفترضون أن الفقه بلغ حدًا معينًا من النمو عند زمن معين ثم وقع في مأزق يقتضي تغييرًا في أصوله وآلياته ومناهجه الكبرى، والكثير من هؤلاء تتشكل في أذهانهم رؤية وتصور معين للنهضة والحضارة والتقدم يحاكمون المناهج الفقهية إليها فيما يصح منها وما لا يصح وما ينبغي أن يستمر منها وما يجب أن يتوقف، ويجعلون من واقع الحياة قبلة يجب أن يخضع الفقه لشروطها (^١).
لقد أنزل الله ﷻ علينا الدين ليكون نجاة لنا في الدنيا والآخرة، وشرع لنا فيه من الأحكام ما يعود علينا بالصلاح التام في شأننا كله، وجعل الأمن والسلام في اتباع دينه وشرعه، فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢]، وقال جل ثناؤه: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: ١٥]، وما من
_________
(^١) انظر على سبيل المثال: سياسيات الإسلام المعاصر، د. رضوان السيد (١٦٠)، القطيعة بين المثقف والفقيه، يحيى محمد (١٠٣).
1 / 12
صلاح يتوخاه البشر في سياساتهم وتدبيراتهم إلا جاءت الشريعة بما هو أتم منه وأكمل؛ لأنها من عند الله تعالى، والله ﷻ عليم يعلم ما هو الأصلح لعباده، وهو خبير بأحوالهم الظاهرة والباطنة، وهو لطيف بهم يسبب لهم الخير من حيث لا يعلمون، وهو حكيم يضع الأشياء في محالِّها بحكمته وعدله ولا يدخل تدبيره خلل ولا زلل، وهو رحيم يرحم خلقه ويبصِّرهم ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ويمكن لهم أسباب مصالحهم برحمته التي وسعت كل شيء، وهو محيط لا يخفى عليه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو جميل يحب الجمال فأفعاله كلها خير ومصلحة وعدل ورحمة، وشريعته شريعة الجمال والجلال، وهو يحب منا أن نتقرب إليه بالجميل من الأقوال والأفعال والأخلاق، وهو رفيق في أحكامه وأمره ونهيه، لا يكلف عباده ما لا يطيقون، ويتدرج بهم من حال إلى حال من رفقه ورأفته بهم، وهو سلام سالم من كل عيب ونقص، وكذلك شرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب وخلاف مصلحة العباد ورحمتهم والإحسان إليهم، وهو قيومٌ قائم على كل نفس بما كسبت وكل مخلوقاته فقيرة إليه ولا غنى لخلقه عنه طرفة عين.
والشريعة التي هذا وصفها لا بد أن تشتمل على أسباب الصلاح كلها، وإدراك هذه الأسباب وفهمها وتحقيقها في واقع حياة الناس موكول إلى اجتهاد أهلها الذين جرى تكليفهم بها، وما يحصل من خلل في حياتهم وفساد في شؤونهم فذاك راجع
1 / 13
إلى تقصيرهم في العلم أو في العمل، فإن الشريعة من الأمر الذي يكلف به العباد ويحاسبون عليه، وليست من الخلق المقدر الذي هو مقضي لا محالة، والكثير من الناس يرون ما يتطرق إلى حياة المسلمين من الفساد فينسبونه إلى الشريعة وتقصر فهومهم عن نسبته إلى تقصيرهم في فهمها والعمل بها وإخلالهم بشروطها، وربما أدى بهم ذلك إلى الدعوة إلى تبديل بعض حقائق الشريعة باسم التجديد والإصلاح، حتى إذا سلكوا تلك السبيل باتوا كصخرة زل متنها عن رأس جبل فهي تتحدر منه إلى مكان سحيق.
إن تجديد الفقه وإصلاحه إنما يكون بالعودة إلى أصوله والتمسك بها، وتصحيح ما لحقها من سوء التصورات والآراء وفساد الظنون والأوهام، فإن حياة المتقدمين من أهل القرون الأولى كانت صالحة مستقيمة، مما يدل على أن علومهم كانت صالحة مستقيمة.
يقول ابن أبي جمرة (ت ٦٩٩ هـ): (عمل المتقدمين أقوى من عمل أهل وقتنا، والعمل هو ثمرة العلم، فإذا كانت ثمرتان ثمر الواحدة خير وأكثر من الأخرى قطع بالجزم أن الذي ثمرها أكثر وأحسن خير من الأخرى بلا خلاف في ذلك عند من له بصيرة وعقل) (^١).
وهذا الفقه الصالح عند المتقدمين تشكلت به هوية الأمة
_________
(^١) بهجة النفوس (٢/ ٥٩).
1 / 14
وقامت به حياتها، ورسخ بتعاقب القرون في وجدانها ومزاجها، وأصبح من أكبر مكوناتها واتصل بوجودها وجرى به سداد أمورها وصلاح شؤونها. حتى غدت أي محاولة للإصلاح غير مجدية ما لم تكن صادرة عن أصوله ومقاصده وأحكامه وغاياته. وهذه العصور الحديثة حافلة باتجاهات وتيارات تنسب نفسها إلى الإصلاح ولكنها تخاصم هوية الأمة وشريعتها فيؤول أمرها إلى فساد وإفساد، وما يجري على يديها من صلاح فهو صلاح جزئي من وجه دون وجه.
إن صلاح أحوال الأمة له ارتباط وثيق بتجديد فقهها الذي هو منهاج حياتها، ومن هنا كانت الحاجة إلى الحديث عن «إصلاح الفقيه» الذي يمارس هذا التجديد بوعي وبصيرة، وقد اخترت لفظة الإصلاح لمناسبة المقابلة بين إصلاح الفقه وإصلاح الحياة مما يتطرق هذا البحث إليه، ولأجل بيان حقيقة الإصلاح الذي به نهضة الأمة وتقدمها دون دعاوى الإصلاح التي تعرض عن الشريعة ولا تكترث بها، أو التي تسلك بها مسالك الغلو أو الجفاء.
ومهدت بين يدي هذه الدراسة بتمهيد يبين أهمية إصلاح الفقيه وأولويته، ثم عقدت سائرها في فصول أربعة: فأما الفصل الأول ففيه بيان معنى الفقه وحقيقة الصناعة الفقهية وفيه أيضًا بيان دور الفقيه ووظائفه في الحياة، فإنه لا يستقيم الحديث عن إصلاح الفقيه ما لم تكن تلك المعاني متقررة ابتداءً.
1 / 15
وأما الفصل الثاني ففيه بيان موقع الفقه في خطة الإصلاح العامة وفيه نماذج وأمثلة تشرح أثر الفقه في الحياة ودور الفقهاء فيها.
وأما الفصل الثالث ففيه بيان علاقات الفقيه في الوسط الذي يمارس فيه وظائفه، وهذه العلاقات تتراوح بين علاقته بالنخبة والعامة، والنخبة نخبتان فنخبة سياسية ونخبة ثقافية، ومن المهم تصور علاقة الفقيه بهذه الأطياف الثلاثة.
وأما الفصل الرابع ففيه بيان سبيل تأهيل الفقيه المصلح المشارك في صياغة الحياة وصناعتها، وذلك بإصلاح التعليم الفقهي وإصلاح التآليف الفقهية، مع إشارة إلى طبيعة المذاهب الفقهية والموقف منها ودورها في تأهيل الفقهاء. ثم ختمت بخاتمة لخصت فيه غرض هذا البحث.
وليس القصد من هذه الدراسة المختصرة اقتراح خطة للإصلاح، فإن هذه مهمة جليلة بحاجة إلى تضافر كبار فقهاء هذا الزمان، ونعوذ بالله من التكلف لما لا نحسن والتصدي لما لا نطيق، ولكنها إشارة عجلي لبعض الأولويات البحثية والمنهجيات العلمية والعملية المتَّبعة عند الفقهاء رحمهم الله تعالى، تهدف إلى تذكير فاضل أو تنبيه غافل. والله تعالى المسؤول أن يصلح النية والقصد، وأن يصلح العلم والعمل، وأن يهدينا لما فيه رشدنا وصلاحنا.
وبعد، فالحمدُ للهِ الذي بيده المواهب كلها، وكل نعمة بنا
1 / 16
فمنه ابتداؤها ودوامها، يجود علينا بفضله، ويثيبنا على طاعة نستعينه عليها، فله الحمد حمدًا لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد.
ثم شكري وثنائي بعد ذلك موصول للشيوخ الأفاضل والأصدقاء الكرام الذين أكرموني بقراءة هذا البحث ومراجعته، وأفادوني بكريم نصحهم وتوجيههم، فالله يتولى جزاءهم ويجزل ثوابهم في الدنيا والآخرة، والله يتولانا جميعًا برحمته وتوفيقه فنعم المولى ونعم النصير.
1 / 17
تمهيد
هل نعيش نهضة فقهية؟
«إن الأزهر البائد على فوضاه المنظمة كان أجدى على الدين وأعود على الثقافة من هذا الخلق المسيخ الذي وقف بين الماضي والحاضر وبين الدين والسياسة موقفًا يُندي الجبين الصلب ويوجع الفؤاد المصمت».
أحمد حسن الزيات [وحي الرسالة: ١/ ١٨٧]
«نحن أقزام محمولون على أكتاف عماليق، وإذا كنا نشاهد أكثر مما شاهدوا ونرى أبعد مما رأوا، فليس ذلك لأن بصرنا أحدّ أو لأن أجسامنا أطول، بل لأنهم يحملوننا على أكتافهم في الهواء ويرفعوننا بكل طول قاماتهم الهائل).
برنار دي شارتر [في نقد الحاجة إلى الإصلاح،
د. محمد عابد الجابري: ٦٤]
1 / 19
برز في المجال الفقهي منذ قرن من الزمان نوع من التأليف الذي لم يكن معهودًا فيما مضى، وهو تأليف مداخل فقهية تدرس كمقررات جامعية في الغالب، وتتضمن تعريفًا بالفقه وأبرز خصائصه ومدارسه ونشاطات رجاله، وجرت عادة هذه المداخل على تحقيب تاريخ الفقه إلى أدوار ومراحل حسب السمة الغالبة لكل دورة زمنية محددة، وقد تختلف المداخل شيئًا يسيرًا في ضم بعض الأدوار أو فصلها، غير أنها تتفق من حيث العموم على أبرز الملامح الرئيسية، ولمتقدمها أثر ظاهر على متأخرها.
ومن الأمر اللافت للانتباه أن طائفة من هذه المداخل درجت على تسمية العصر المتأخر بأسماء توحي بارتفاع رتبته عن الدور السابق له، فتسمي المرحلة السابقة مرحلة الجمود والانحطاط الفقهي ونحو ذلك، ثم تصف هذا الدور الذي نعيشه بأنه عصر (نهضة فقهية)، أو (يقظة فقهية)، أو أنه عصر (تجديد الفقه)، أو (انبعاث الفقه) (^١)، وربما غلب التحفظ والاحتراز على بعض المصادر فوصفت المرحلة: بأنها مرحلة (محاولات تجديد الفقه)، أو أنها (تباشير نهضة فقهية) (^٢).
_________
(^١) انظر على سبيل المثال: المدخل في الفقه الإسلامي، د. محمد مصطفى شلبي (١٥٤)، المدخل للفقه الإسلامي، د. محمد سلام مدكور (١٠٢)، المدخل لدراسة الفقه الإسلامي، د. رمضان الشرنباصي (١٠١)، المدخل الوسيط لدراسة الشريعة، د. نصر واصل (١٣٧)، تاريخ التشريع الإسلامي، عبد العظيم شرف الدين (٢٤٤)، مقدمة في دراسة الفقه، د. محمد الدسوقي (٢١١).
(^٢) انظر على سبيل المثال: تاريخ التشريع الإسلامي، د. مناع القطان (٣٩٧)، المدخل لدراسة الشريعة، د. عبد الكريم زيدان (١٥٤).
1 / 20
وعند تتبع هذه التسمية فإننا نلاحظ أن أول من صنف في (تاريخ الفقه) هما الشيخان محمد الخضري (ت ١٣٤٥ هـ) في كتابه «تاريخ التشريع الإسلامي» الذي صدر عام (١٣٣٩ هـ/ ١٩٢٠ م)، والشيخ محمد بن الحسن الحجوي (ت ١٣٧٦ هـ) في كتابه «الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي» الذي صدر عام (١٣٤٠ هـ/ ١٩٢١ م). وبالرجوع إلى هذين الكتابين وبالرغم من عظيم أثرهما على من جاء بعدهما فإننا لا نجد أنهما جعلا هذا الدور دورًا مستقلًا ومتميزًا عن الدور السابق عليه، بل جعلاه امتدادًا لعصور الجمود والانحطاط (^١). ولا بد أن نضع في اعتبارنا أن هذين الكتابين صدرا قبل ما يقرب من القرن من الزمان.
وهنا يبرز تساؤل: هل جدَّ خلال هذا القرن من الزمان ما جعل المداخل الفقهية التي ألفت فيه تصفه بأنه عصر نهضة وتجديد؟ أم أن الخضري والحجوي أدركا بداية الأنشطة الفقهية المستجدة ولم يعتبراها مع ذلك نهضة فقهية حقيقية تستحق أن تفرد بدور مستقل واسم جديد؟ والسؤال الذي هو أهم من هذا وذاك: هل نعيش بالفعل نهضة فقهية حقيقية وتجديدًا فقهيًا يجعلنا نسم عصرنا بأنه عصر اليقظة والانبعاث؟ أم أن هذه أوهام وتطلعات صنعها حب الإنسان ورغبته الدفينة في أن يفتح لنفسه آفاق الأمل؟
_________
(^١) انظر: تاريخ التشريع الإسلامي، محمد الخضري بك (٣٦٣)، الفكر السامي، الحجوي (٤/ ٣٩١).
1 / 21
وأهمية هذا السؤال تكمن في أن أولى خطوات الإصلاح هي تقويم الحال الراهنة، ورصد المزايا والمآخذ، والإيجابيات والسلبيات، والمنجزات والإخفاقات، رصدًا كاشفًا لما عليه الحال حقيقة دون مبالغة في الوصف مدحًا أو قدحًا، ولكل من هاتين المبالغتين ما يدفع لها من الناحية النفسية غير أن الإنصاف يقتضي مراغمة النفس وحملها على تصوير الحقائق دون مغالطة ولا تشويه.
وبالرجوع إلى المصادر التي تصف هذا الدور بأنه دور تجديد فإننا نجدها تستدل على ذلك بجملة من الأنشطة الفقهية التي استجدت فيه لتكون شاهدًا يؤكد صحة هذه الأسماء المفترضة، ومن هذه الأنشطة ما يأتي:
الدعوة إلى الاجتهاد الجماعي، ونشوء المجامع الفقهية.
انعقاد المؤتمرات والملتقيات الفقهية وما يحصل بسببها من نقاشات فقهية ومن التقاء الفقهاء وتعارفهم وتواصلهم.
إنشاء الجامعات والكليات والمعاهد الشرعية والفقهية.
التجديد في أسلوب تدريس الفقه والإفادة من المناهج التعليمية الحديثة في تطوير التعليم الفقهي وتحديث أدواته ووسائله.
التجديد في أسلوب التأليف الفقهي من خلال المناهج التي تؤلف لدراسي الفقه في المعاهد والجامعات، ومن خلال البحوث الأكاديمية والرسائل العلمية، واستحداث أنواع جديدة في
1 / 22
الكتابة الفقهية كالموسوعات والفهارس الفقهية والكتابة في النظريات الفقهية، والإخراج الجديد لكتب الفقه ومخطوطاته وتعميم نشرها والاستفادة منها.
التحرر من أسر التعصب المذهبي والانفتاح بين المذاهب الفقهية والاهتمام بالفقه المقارن، ويتبع ذلك أيضًا الاهتمام بدراسة القانون والمقارنة بينه وبين الفقه.
قيام مؤسسات ومراكز بحثية تهتم بالدراسات الفقهية المعاصرة، وتسعى إلى تقريب الأحكام الفقهية إلى المؤسسات التشريعية وغيرها، ونرى تأثير مثل هذه المحاولات في مجالي الاقتصاد والطب كمثال واضح.
استمداد القوانين من الفقه وتنظيمها في تقنينات عصرية.
هذه أبرز العوامل التي تذكر كأسباب تجعل من هذا العصر عصر نهضة وتجديد من حيث الجملة (^١). فهل هذه الأسباب متحققة الوقوع على وجهٍ صالحٍ بالفعل؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهل هذه الأسباب ترتفع بهذا العصر عن العصر السابق لتصح تسميته بأنه عصر يقظة وانبعاث؟
_________
(^١) انظر: المدخل في الفقه الإسلامي، د. محمد مصطفى شلبي (١٥٦)، المدخل الوسيط لدراسة الشريعة، د. نصر واصل (١٣٧)، المدخل لدراسة الفقه الإسلامي، د. رمضان الشرنباصي (١٠١)، المدخل للفقه الإسلامي، د. محمد سلام مدكور (١٠٢)، المدخل الفقهي العام، مصطف الزرقا (١/ ٢٤٨)، مقدمة في دراسة الفقه، د. محمد الدسوقي (٢١٦).
1 / 23
عندما نتأمل مليًا في هذه المظاهر التي تذكر فإن من الممكن أن نجعلها على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مظاهر متحققة ونافعة بالفعل، ولها أثرها الواضح في النهوض بحالة الفقه المعاصر. ومن أمثلة ذلك تيسر سبل التقاء الفقهاء وتواصلهم باختلاف بلدانهم ومذاهبهم، من خلال المجامع الفقهية والملتقيات الفقهية المختلفة من ندوات ومؤتمرات ونحوها، وما يترتب على ذلك من اجتهاد جماعي ومن تفهم للآراء وقربٍ لزوال اللبس الذي ينشأ عن بعد الشقة وتسلسل الوسائط.
القسم الثاني: مظاهر متحققة من جهة الوجود إلا أن سبب وجودها لم يكن منبعثًا من بنية الفقه ذاته، بل هو إفادة من مظاهر النهضة الحديثة وأدوات الحداثة المعاصرة على وجهٍ قد يكون فيه نفع غير مكتمل، أو على وجهٍ يترتب عليه نوع آخر من الفساد.
ومثال الأول: ما سبق ذكره من نشأة الجامعات والكليات والمعاهد الشرعية والفقهية، فإنها بالرغم مما ترتب عليه من الخير الكثير إلا أن هذا النفع قل أن تترتب عليه نهضة في بنية الفقه ذاته بتحسين وظائفه ومقاصده العليا، فالتآليف وطرائق التدريس والبحث لم يتناسب تقدمها تناسبًا طرديًا مع تقدم الوسائل والأدوات الحديثة، بل ظلت من حيث العموم على ذات المنوال الذي كانت عليه فيما يسمى بعصور الانحطاط، بل إنها في أحوال كثيرة تكون أقل كفاءة من حيث جودة المخرجات وسِداد
1 / 24
الوظائف، فما يؤلفه فقيه من فقهاء ما يسمى بعصر الانحطاط يعكف عليه الجماعة من الباحثين السنوات ذوات العدد ليخرجوه في النهاية إخراجًا هزيلًا. ثم يوصف إخراج التراث الفقهي بأنه مظهر من مظاهر النهضة، فأي العصرين أولى باسم النهضة بهذا الوجه من النظر؟
ومثال الثاني: ما ذكر في المظاهر من التحرر من أسر التعصب المذهبي، فإن التعصب أمر مقيت وترتبت عليه فتن ومفاسد لا تزيغ عنها عين متصفح لكتب طبقات الفقهاء. وقد خف هذا التعصب كثيرًا في العصر الحديث حتى بات الفقيه يتعجب من بعض الحكايات المنقولة وينسبها إلى المبالغة. غير أن هذا التحرر أفرز ظاهرة أخرى مقيتة تمثلت في ازدراء فقه المذاهب والنظر إليه على أنه مبتوت الصلة بالأدلة الشرعية المعتبرة، وأن كلام الفقهاء يغلب عليه الحشو والتكلف والافتراض والتعقيد والعزلة عن الحياة الخارجية التي يعيشها الناس، إلى مزاعم أخرى نتجت عن هجران المدونات الفقهية وعدم تصور ما تضمنته من أحكام ومسائل واستدلالات واستنباطات وامتداد منهجي، وهذه النظرة تمثل في حقيقتها كسرًا للعمود الفقري الذي به تقوم كافة علوم الشريعة، ولذا فإن كثيرًا من المتفقهة الذين يسلكون هذه السبيل يخرجون من النظام إلى الفوضى من حيث أرادوا الخروج من الفوضى إلى النظام. وبهذا نلاحظ أن بعض هذه المظاهر كان من المفترض أن تؤدي لنهضة فقهية لو كان لها من يرشِّدها لئلا تضطرب في وجوه الفساد من طرف إلى طرف.
1 / 25
القسم الثالث: مظاهر ليست متحققة، بل هي آمال وأمنيات نتجت من ملاحظة أمثلة يسيرة ثم ارتكاب مغالطة التعميم على الصعيد الفقهي العام، مع أنها استثناء من الأصل وليست قاعدة يمكن جعلها مظهرًا للنهضة والتجديد. ومن الأمثلة الظاهرة لذلك ما ذكر من استمداد التقنينات من الفقه، فإن هذه التقنينات في مجملها لم تجد سبيلها إلى التطبيق إلا في نطاق محدود، بل إن من أبرز سمات هذا العصر الذي نعيشه إقصاء الشريعة عن الحكم، وتظل هذه التقنينات حبيسة الأدراج ما لم توجد عزيمة صادقة على تطبيقها.
ومن أمثلة هذا القسم أيضًا ما تقدم ذكره من تجديد في أسلوب تدريس الفقه والإفادة من المناهج التعليمية الحديثة في تطوير التعليم الفقهي وتحديث أدواته ووسائله، فإن واقع التعليم الفقهي لا يساعد على إدراج ذلك ضمن مظاهر التجديد، بل إن كثيرًا من المراقبين يتحدثون عما يسمى بأزمة التعليم الديني، وأنه لم يكن محل جدل ونقاش كما هو عليه اليوم (^١)، وهذا الكلام لا يخلو من مصداقية على الرغم من اختلاف زاوية الرؤية من مراقب لآخر.
عند التأمل في جميع ما مضى فإننا لا نجد المسببات الكافية التي تحملنا على اعتبار هذا الدور دورًا متميزًا على سابقه إلى النحو الذي يغدو به عصر نهضة وتجديد وانبعاث بل هو
_________
(^١) انظر: أزمة التعليم الديني في العالم الإسلامي، د. خالد الصمدي وزميله (١٣).
1 / 26
امتداد له، وعنده الموازنة بين هذين الدورين فإننا لن نعدم نقاط قوة وضعف في كل منهما، ولن نعدم تقدمًا في بعض الأنشطة الفقهية وتراجعًا في بعضها. ومن الدلائل على الأزمة التي نعيشها في هذا الدور أننا لا نجد للحركة الفقهية مخرجات ذات كفاءة عالية تستقيم بها الخطط الفقهية من تعليم وقضاء ودعوة وإفتاء وخطابة وصلاة، بل إن أصوات المصلحين تعالت ولم تزل تتعالى بالدلالة على أشكال من أشكال الفساد وتتبرم من آثارها ونتائجها.
يقول الشيخ بدر الدين الحلبي (ت ١٣٦٢ هـ): (فإذا استفتيت اليوم عشرة من الفقهاء في حادثة شرعية ليست من مسائل المتون التي هي من فتاوى الأئمة وتدوينهم أجابك كل واحد من العشرة بجواب غير جواب الآخر، وربما ذكر لك كل واحد منهم نصًا من الكتاب الذي اعتمد عليه وأفتاك بما رأى فيه. وانضم إلى هذا فساد التطبيق في بعض المحاكم الشرعية، فكان حال القانون الشرعي كحال القانون الوضعي سواء بسواء لا يختلف عنه بشيء غير أن القائمين بأحدهما منسوبون إلى الشرع، والقائمون بالآخر غير منسوبين إليه. وما قد يوجد في القانون الشرعي من الفروع التي توافق مذاهب الأئمة فلعله لا يخلو منها القانون الوضعي وإن لم يذكر على أنه من القوانين السماوية، وإنما وضع لظن واضعه أن المصلحة فيه، وأصبحت مصالح العباد مهجورة، والحقوق مهددة، والمستجير بأحدهما كالمستجير من الرمضاء بالنار.
وشرح الحالة الحاضرة بأزيد مما أشرنا إليه مشكل جدًا، والبصير
1 / 27
إذا التفت عن يمينه مرة وعن شماله أخرى عرف مقدار الشر والفساد الواقعين على رؤوس العباد) (^١).
ويقول الأستاذ محمد كرد علي (ت ١٣٧٢ هـ): (وهناك كثيرون تولوا الأعمال العلمية العظيمة كالقضاء والإفتاء، وكانوا على جانب من الجهل المخيف. أدركت منهم مفتيًا سخيفًا كان يدعي له مريدوه أنه عفيف لا يرتشي، وأنا أعرف أن أحد أقربائي قد رشاه بمقدار من الأرز والسكر والسمن فحكم له بما أراد، وكان إلى هذا جاهلًا لا يعرف إلا ما تعلمه من فقه المحاكم...
وهذا الشيخ كان ممن يتقرب إلى العوام بلعن رجال الإصلاح وتكفيرهم وتبديعهم؛ لأنهم هم الذين يظهرون حقائق أمثاله للملأ ويعرفونهم أنهم طبول فارغة) (^٢).
والواقع أنه لا يمكن النظر إلى هذا النوع من الفساد بمعزل عن الفساد العام، فإن الفقه في حقيقته وطبيعته واقع وحياة لا مجرد فكر وتنظير.
والفساد الذي يتطرق إلى الحياة العامة ستمتد آثاره إلى الممارسات والنتائج الفقهية بطبيعة الحال، فإن الشريعة إذا استبعدت من الحكم تطرق إلى الحركة الفقهية الركود والجمود، وإن السياسي إذا فسد اختار الفاسد من حملة الفقه فإن (السلطان
_________
(^١) التعليم والإرشاد (٤١).
(^٢) أقوالنا وأفعالنا (٢٥٧).
1 / 28
سوق، وإنما يجلب إلى كل سوق ما ينفق فيها) (^١)، ولا تسل عن ضيعة الأمر يومئذٍ، والأمر كما قال ابن المبارك (ت ١٨١ هـ):
وهل بدَّل الدين إلا الملوك... وأحبار سوء ورهبانها
وباعوا النفوس فلم يربحوا... ولم تغل في البيع أثمانها (^٢)
وبالإضافة إلى ذلك فإنه لا يتصور في طبائع الأشياء أن يحصل تطور تشريعي في وضع اقتصادي واجتماعي ساكن وراكد، أما إذا دبت الحياة والحركة في المجتمع فإن القانون يبدأ حينئذٍ في التشريع لها، فالركود القانوني والتشريعي مردود في حقيقة الأمر إلى ركود المجتمع وسكون الحياة (^٣). وهذا أمر ملاحظ لمن سبر أحوال الدول، فإن الحركة العلمية تضعف بضعف الدولة، ومن أمثلة ذلك سكون حركة العلم في مصر بعد سقوط دولة المماليك وتحول مصر من دولة متبوعة إلى ولاية تابعة للدولة العثمانية في إسلامبول (إسطنبول)، فانحطت مكانتها بزوال دولتها ولم يظهر فيها من العلماء كالذين ظهروا في فترة المماليك، لا سيما بعد أن صارت اللغة التركية لغة الدواوين، فضعفت العربية ضعفًا شديدًا، وضعفت علومها وآدابها وطغت العامية عليها (^٤).
_________
(^١) رسائل الجاحظ (١/ ٢١٣)، وأصل العبارة لأبي حازم الأعرج عندما قال لسليمان بن عبد الملك: (إنما أنت سوق فما نفق عندك حمل إليك من خير أو شر فاختر أيهما شئت). انظر: العقد الفريد (٣/ ١٠٨).
(^٢) شعب الإيمان، البيهقي (٩/ ٤٢٣).
(^٣) انظر: تحويل المرجعية التشريعية في مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين، طارق البشري، مجلة الأزهر، الجزء ١١، السنة ٨٥، (ص ٢٣٩٣).
(^٤) انظر: تاريخ الإصلاح في الأزهر، عبد المتعال الصعيدي (٧).
1 / 29