قيل لبعض العرب ومن سيدكم؟ فقالوا فلان. فقيل بم؟ فقالوا: احتجنا إلى علمه واستغنى عن دنيانا، فمثله تكون العلماء والأمراء، وبمثله - إن شاء الله - ستفاخر المدينة العظمى سائر مدن العالم. وقال أعرابي آخر: أحب أن أتمثل بأبناء هذه اللغة لتتأكدوا أن مثل هذه المدينة العظيمة لا يستحيل وجودها في بلادنا.
قال سيد من العرب لقومه: اعلموا أنني حاسدت عليكم حتى صرت عبدا لكم أغدق على سائلكم وأصفح عن جاهلكم وأحوط حريمكم وأدفع غريمكم فمن فعل مثل فعلي فهو مثلي ومن فعل فوقي فعلي فهو فوقي ومن فعل دون فعلي فهو دوني. فهل يا ترى يوجد بين المتمدنين اليوم من تجتمع فيه هذه الخلال الشريفة كلها، أفلا يحق لمدينة المستقبل أن تفاخر سائر المدن بمثل هذا الأمير.
وبين رجال العرب من كان أعظم منه. دخل ابن العباس على علي بن أبي طالب خارج الكوفة وهو يقطب نعله، فقال له: ما قيمة هذه النعل. فقال ابن العباس: لا قيمة لها فقال علي: لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا. فالمدينة العظمى هي التي يكثر فيها مثل هؤلاء الرجال العظام الصالحين، هي التي يتعود كل امرئ فيها محاسبة نفسه فإذا كان ممن لهم شيء من الشهرة أو المجد أو القوة أو النفوذ أو السلطة أو المال؛ يسأل نفسه كل يوم وما قيمة هذه الأشياء كلها إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا، ما الفائدة من هذه السيادة أو من هذه الشهرة أو من هذه الأموال إذا كانت لا تساعدني على نصرة الحقيقة وإقامة الحق ودفع الأباطيل والأضاليل، ما الفائدة منها إذا كانت لا تبعدني في الأقل عن هذه الظلمات وسكانها عن أسيادها وعبيدها، وقد قيل شر من الجهل نصرة الجهال، وأسوأ من الضلالة الاحتجاج للضلال.
سادتي! إن المدينة العظمى هي التي تنتصر فيها الحقيقة قولا وفعلا، هي التي يروج فيها الصدق كما هو الكذب رائج في العالم اليوم، هي التي يعيش فيها الأدباء والعلماء لا للشهرة والمجد ولا للكسب والمال فقط بل لخدمة الحقيقة فكرا وقولا وفعلا. إن فروسية اللسان لغير فروسية الجنان، وما كل من هز لسانه فخرا ومباهاة يستل حسامه في الغارات، فالنفس الراقية التي تعيش لهواها وشهواتها وأباطيل المجد والسيادة فقط هي كالكلب الإفرنجي الجميل الذي يقضي حياته كلها تحت قدمي سيده أو تحت رداء سيدته، والعجب في أمر هذه النفس أنها كلما أمعنت في اللذات كلما اكفهرت في وجهها آفاق الحياة. وقد قال أحد المتصوفين.
إن المرائي لا تريك
عيوب وجهك في صداها
وكذاك نفسك لا تريك
عيوب نفسك في هواها
وها أني ذكرت من المحاسن والأماني ما ستنفرد فيه المدينة العظمى عن سائر المدن، وهناك أمنية أخرى بل نبوءة لأحد الأنبياء ترددت في ذكرها، وليلة كنت أفكر في هذا الموضوع طرق بيتي طارق ففتحت فإذا بالباب شيخ جليل عاري الرأس حاف، لابس قميصا بيضاء فوقها رداء أسود مسدول على كتفيه، وقف في الباب ورأسه منحن فوق يديه المضمومتين على هراوته ولما فتحت دخل دون استئذان وسار توا إلى مكتبي وجلس هناك على كرسي أمامي، فأخذني من أمره العجب ولكن قبل أن بادرته بالحديث قال: جئت أحقق أمنيتك وأمدك بآخر من آرائي، فقلت والدهشة تملأ نفسي: ومن أنت يا سيدي، فقال: أنا هو. - هو؟ من؟ - هو الذي يخطر الآن في بالك وتحير نبوءته قلبك. - بالله أنت أشعيا بن آموص؟ - نعم أنا أشعيا.
فنهضت على الفور عن كرسي وقبلت يد النبي، ولما رأيته قد تبسم تشجعت وقبلت أيضا شفتيه اللتين لم تزالا ملتهبتين حتى اليوم. ثم تجاسرت فقلت: جئتنا يا مولاي وقت العشاء فهلا باركت الخوان وأكلت معنا من عدس لبنان؛ ليصير بيننا - كما تقول العامة - خبز وملح، فأومأ برأسه مبتسما وتقدمني إلى غرفة الطعام، وبينما نحن في طبخة يعقوب بادرته بالحديث فقلت: ألم تتنبأ يا مولاي منذ ألوف من السنين بجيل يرعى الذئب والحمل فيه معا والأسد يأكل التبن كالبقر والناس يطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل؟ فأحنى النبي رأسه مجيبا بالإيجاب.
Неизвестная страница