فظل الناسك - والحال هذه - هائما في واديه، ولم يدر أن الجمعية لم تزل تناديه، على أنه لم يكد يرفع طرفه إلى سماء الروح ويلمس بيده ما تجسم أمامه من السعادة الروحية الحقيقية حتى جاء هذا الشتاء وفيه ما كتب له - بل عليه - من الشدة والبلاء، فهجر صومعته في الجبل مضطرا واعتاض عن شذا الأودية بروائح الأدوية وعن الأولياء بالأطباء، مع أن الفرق بين الأولياء والأطباء قليل لا يستحق الذكر، فكم من طبيب فاضل يستحق أن يطوب قديسا أو يدعى وليا بعد موته، فقد تعرفت بفضل آلامي العصيبة بعدد وافر من هؤلاء الأفاضل، وبان لي بالاختبار ما كنت أجهله، تحققت أن الفرق بين الطبيب والكاهن كالفرق بين الكاهن والمحامي، كلهم - نفعنا الله بعلمهم وبرهم - يتعاطون الجربزة، كلهم يتاجرون بشيء من الحقيقة وبكثير من الخزعبلات والأوهام، على أن الطبيب أرفع درجة من الكاهن والكاهن أرفع درجة من المحامي.
والثلاثة يا سادتي من سلالة واحدة ومن بطن واحد، نعم إن الطبيب والكاهن والمحامي ثلاثة عقبان من بيضة واحدة، ومن الشرور ما كان لازما للبشر، من الشرور ما هو نافع للإنسان، وقد كنت أسيرا لشيء منها في هذه المدينة لما جاءني رئيس هذه الجمعية فأسرني أيضا بلطفه وجميل أدبه، وكلمني مرة أخرى في أمر الخطابة، ألح علي الرئيس وعدد من الأدباء بأسلوب جعلني أظن أن الجمعية تنوي أن تحاصرني في الفريكة وتعقد جلستها هناك إذا كنت لا أتكلم في حفلتها هنا، فخفت من المضايقة في عزلتي ونتيجة خوفي - أيها الكرام - وقوفي أمامكم الآن خطيبا. عفوا سادتي ما جئتكم خطيبا الليلة بل محدثا، وسأحدثكم في موضوع العزلة ومنافعها ومضارها .
العزلة إما داء وإما دواء وإما غذاء، هي داء لمن لا يجد في نفسه ما يغنيه عن معاشرة الناس، ولو زمنا قصيرا. وهي دواء لمن سئمت نفسه من ملاذ هذا المجتمع وموبقاته، من سروره وشروره، فيعود إلى أمه الطبيعة لتداويه بنور شمسها وعليل هوائها وشذا رياحينها. وهي غذاء لمن يخرج من الهيئة الاجتماعية والنفس نافرة من محيط هي غريبة فيه، يعتزل الناس طالبا في الطبيعة الراحة التي لا يعرفها الناس، واللذات التي لا يشعر بها الناس، والتعزية التي قلما تعزي عامة الناس.
نفس الأول خامدة جامدة، ونفس الثاني سقيمة عقيمة، ونفس الثالث من الأنفس السامية الكبيرة التي قلما تنام، فهي تفيق من هجعتها قبل صياح الديك فتفتح عينيها في ظلمة الليل الحالكة وتقاسي قبل بزوغ الفجر من العذاب والحيرة أشدهما، تبتدئ هذه النفس بالمقاومة والتمرد، فتقاوم القوات التي تعترضها في طريقها وتتمرد على كل من يحاول إبقائها في الظلمات الدامسة.
تسير بنور مصباحها الداخلي إلى أن تخرج من الظلمات بفضل ما فيها من الشجاعة والإقدام والثبات، فتتدرج من الظلمة متمردة إلى العزلة هادئة وتعاني فيها بادئ بدء نوعا جديدا من العذاب، تعاني هناك عذابا هو أساس كل لذاتها الروحية، بل هو العذاب الذي يقاسيه من تعودت أعصابه المخدرات والمسكنات؛ إذ ينقطع عنها دفعة واحدة، ومن العزلة تعود هذه النفس المحررة المستنيرة المتمردة إلى المجتمع لتتمم فيه إرادتها، لتنير ولو زاوية صغيرة فيه بما فاض من نورها.
شبهت الانقطاع عن الناس بالانقطاع دفعة واحدة عن المسكنات التي يعتادها المريض، فهل خطر لأحد منكم أن يستشير ربه بواسطة الطبيعة في أمر روحه المريضة كما يستشير الطبيب في أمر جسده، أيدهشكم قولي لكم إننا كلنا مرضى بوجه ما، وفي هذا المجتمع كما هو اليوم بالأخص بما فيه من دواعي الأمراض والهموم والأحزان تنسينا الحركة الدائمة آلامنا، ولا أذكر الآن أي علماء الألمان قسم الناس ثلاثة أقسام فقال: قسم منهم يولد للمستشفى، وقسم للمارستان، والقسم الثالث للبادية، أي: أن ذلك العالم الألماني يقول إن الناس إما مرضى وإما مجانين وإما برابرة.
ومع ما في هذا القول من الغلو والضلال والكفر - فقد كفر العالم بالنفس وأساء فهم نواميس الطبيعة وغالى في تقبيح الإنسان - مع ما في قوله مما ذكرت فهو لا يخلو من الحقيقة، غير أنها حقيقة ناقصة متجزئة، وأما الحقيقة كلها، الحقيقة الشاملة الأبدية هي أن الناس كلهم سواء من وجهة الفيلسوف، ومن هذه الوجهة أيضا يمكننا أن نقسم البشر إلى قسمين أوليين، قسم الأحياء روحيا وقسم الأموات، وهاتان الطبقتان نشاهدهما في كل شعب حضريا كان أو بدويا، ففي البداوة أناس تتنبه فيهم الروح وتنهض من سباتها كما في الحضارة، بل في البدو تبلغ الروح المتفردة الكبيرة أعلى درجة من السمو والقوة والجمال، فيخرج من البادية رجال كما يظهر في المدن رجال، وإن نبغ في نويرك المخترعون وفي لندرا العلماء وفي برلين الفلاسفة وفي باريس الشعراء وفي فلورنسة المصورون والنحاتون؛ ففي البادية ينشأ الأنبياء.
لكل بلاد مزية طبيعية ثابتة دائمة، وفي كل نفس بشرية شيء من سماء البلاد التي نشأت فيها ومن أرضها، فيها شيء من تبر وطنها ومن ترابه، من خير هوائها ومن شره، من فتوره ومن نشاطه، من هدوه ومن هياجه. فالناس إذا كلهم سواء من وجهة الفيلسوف، الإنسان واحد من بلاد الزولو إلى شطوط النروج ومن ثلوج ألسكا إلى أطراف اليابان، الناس كلهم سواء من حيث إن الأمراض والجنون والتوحش كلها تنتاب كلا منا في أوقات مختلفة وبدرجات متفاوتة.
ولا يفوتنا أن نذكر مع هذه الشدائد كلها نعمة واحدة شاملة، فإنا ممن لا ييأسون ولا يقطعون الرجاء مهما توغل الإنسان في الجهل والجنون والتوحش؛ لأنني على يقين أن النفس في كل منا تفيق ولو مرة واحدة من سباتها في سياحتها هذه العالمية، تنهض النفس من غفلتها فتجيء ولو بعمل واحد شريف خالص لوجه الله، ترينا من الشهامة والمعروف والإحسان ما يزيل عن وجه الحياة شيئا من تقطبه وعبوسته، تنهض النفس من ظلماتها، من تحت أثقالها المادية، من بين أغلالها الاجتماعية، من تحت أهوائها وشهواتها وأغراضها الذميمة لتقول للناس: إنني لم أزل حية وأعرف معنى الحب والتساهل والحنان، إنني لم أزل حية وأعرف معنى الحق والعدل والحرية، فيمكنني أن أتسامى إلى ما فوق الشرف المتعارف بين الناس، إلى ما فوق الفضيلة المصطلح عليها، إلى ما فوق القوانين والشرائع، إلى ما فوق قداسة الأديان وخزعبلات بدعها، أي: لا بد لكل امرئ من ساعة - ولو في حياته كلها - يظهر فيها بمظهر الفضيلة الصادقة الفضيلة المجردة النامية الحقيقية فيخضع للنفس الأمارة بالخير لا بالسوء لتظهر فيها محاسنها الجليلة.
ولذلك ينبغي أن تقول إن الأمراض والجنون والتوحش وحسنات النفس أو يقظاتها تنتاب كلا منا على الإطلاق، تنتاب كلا منا في أوقات مختلفة - كما قلت - وبدرجات متفاوتة. ومن هذه الوجهة المرتفعة وجهة الفيلسوف العمومية كلنا - لا شك - متساوون، أي: أننا كلنا مرضى بنوع ما وكلنا نتخذ الأشغال نلهو بها، نسكن بها آلامنا، نخدر بها همومنا، نضمد بها جروح صبرنا ورجائنا ننعش بها آمالنا، وعندما يقف الواحد منا ليتنفس قليلا ليتنشق نسيم السحر الجميل أو بالحري ليدع عمله هنيهة ويستريح تعاوده آلامه مضاعفة كما تعاود الأوجاع المريض عند انتهاء فعل المرفين، وما هي هذه الآلام يا سادتي؟ أروحانية هي أم جسمانية؟ فالطبيب يقول لنا إنها جسمانية، والكاهن يقول إنها روحانية، والحقيقة ههنا أقرب إلى جانب الكاهن منها إلى جانب الطبيب.
Неизвестная страница