ولسنا من الذين ينكرون على الكاتب حق التهكم في الأحايين؛ إذ إننا نعتقد بصلاحية هذا الأسلوب ونعده من الظرائف الجدلية الفعالة التي يقاوم بها الكاتب كل سخيف سقيم، أما تهكم كارليل فحاد إذا خف، وفظ إذا اشتد. وبينا نحن نطالع هذا الكتاب لم نتمالك أن أعدنا الفكرة إلى ما كنا نطالعه من نفثات فولتر فإننا نرى بين مؤلفين نابغتين الواحد منهما لاتيني والآخر سكسوني شبها عظيما من حيث أسلوب الكتابة السخري الذي استخدماه في مقاتلة الفساد والظلم والخرافة، ولكن أين تهكم الإنكليزي الكالح الجاف من تهكم الإفرنسي الوضاح المنير، فهذا شبيه ببركان وذاك بمرض عضال مزمن، هذا يهلك ما يلقاه عاجلا وذاك يدخل جسم الفساد والخرافة فيضعفه ويلاشيه تدريجيا. فضلا عن أن تهكم كارليل خال من الذكاء الذي يزين تهكم فولتر، كان كارليل يرعد إذا غضب ويمطر، وأما فولتر فكان يبتسم ابتسامته المشهورة ويسير بهدوء إلى غايته المطلوبة.
لنعد الآن إلى الكتاب الذي نحن بصدده، أراد المؤلف ألا يتحيز في تاريخه، وأن يكون مع الحق أينما وجد، سواء كان في جانب زعماء الثورة أو حول عرش الحكومة القديمة، ولكن رغبته هذه أدت به إلى الفتور وعدم الاكتراث. والحق يقال إن من لا يكترث لحادثة ما لا يستطيع أن يكتب عنها بدقة وإصابة وإخلاص. وكارليل يبحث عن أكبر حادثة في العالم كما تبحث صحف الأخبار عن جريمة بيتية أو حادثة خصوصية يزول أثرها بعد أن يقرأ خبرها، فهو أبدا يفتش عن الحوادث الطفيفة التي كان الأحرى بها أن تدون في الروايات الغرامية، ويستنتج منها نتائج عمومية فاسدة ويصور من هذه صورا خيالية فظيعة يسأم هو منها في النهاية ويرفع يديه إلى السماء صارخا «أممكن أن تخلق ربي مثل هذا الشعب.»
وهل دعوة الإفرنسيس يا ترى خالية من الحقيقة وهل الثورة بذاتها نهضة فاسدة مضللة، وكيف يتملص الكاتب الفاتر المشكك من لوم الناس الذين حاربوا الثورة أو نصروها وبعض بنيهم وأحفادهم لم يزالوا حتى يومنا هذا يقاومون نتائجها وبعضهم ينصرونها، فلو كانت فاسدة على الإطلاق لأمحت آثارها بعد مئة سنة من الزمان. نحن من الذين قالوا بعدم الاكتراث في بعض المسائل الدينية التي لا تولد إلا النزاع والشقاق، ولكن الوقت لم يحن لنبذ الحماسة السياسية والغيرة القومية، فالمرء الذي لا يكترث لأمور حكومته يعد خاملا والكاتب الذي لا يجد خيرا في أي نوع من الحكومات يعد فوضويا.
إن الحقيقة التي نفصلها عن أخواتها، عن أسبابها ونتائجها، وندونها معتزلة مستقلة كثيرا ما تغش المؤلف وتضر بالغاية الأصلية التي ينبغي أن تظل نصب عينيه، أما الثورة في رأي كارليل فلا سابق ولا لاحق لها، هي فلتة اجتماعية لا سبب لها ولا نتيجة هي ضربة من ضربات الله، هي مصيبة من مصائب الزمان، هي بنت الصدفة التي نشأت عنها وماتت فيها هي حادثة معتزلة عن حياة البشر السابقة وعن مستقبلهم. إن عددا من الناس ينتسبون إلى بلاد تدعى فرنسا قاموا في وقت من الزمن فهاجوا وماجوا وحدث بينهم شغب عظيم وقتال من أجل قوانين ونظامات سياسية جمعوها فلقبوها بالقانون الأساسي، ومن ثم أهلك بعضهم بعضا وختموا القانون بدمائهم وعادت الأشياء إلى عالم النسيان إلى ظلمات الزوال. هذا كل ما يراه كارليل في الثورة الإفرنسية، فهو لا يكلف نفسه النظر في البواعث التي من أجلها سفكت دماء الألوف من الناس، ومع ذلك هو يحاول إظهار الفاسد من الصحيح فيها، وكيف يستطيع الكاتب أن يحكم على أحوال أمة في عصر لم يكن هو منه بعد أن أهمل التنقيب في تاريخ الأمة الماضي وفي أخلاق الشعب وأحواله السياسية والزراعية والتجارية.
قد أوجب الأقدمون على المؤرخين إبداء الحكم في كل قضية يدونونها وأقاموهم مقام القضاة، وبعد أن يدون المؤرخ الحوادث بدقة وإخلاص يمحص الصحيح من الفاسد، ويستنتج من ذلك نتيجة تسوغ له وضع قاعدة أدبية فيها نور وهدى للأجيال المقبلة. وقد قام كارليل ببعض هذا الواجب في تدوين الحوادث غير أنه أغفل أمرا جوهريا، هو ذكر السبب الرئيسي الذي نشأت عنه الثورة، فهو لا يرى فيها عملا واحدا يستحق الشكر إذا ذكر، ولكن حادثة واحدة فظيعة لا تقدح في نهضة عمومية خطيرة وإن تعددت هذه الحوادث المرعبة فالنظر إليها وإلى أسبابها الأولية معا لأمر واجب على المؤرخ.
إن صلب المسيح بالنظر إلى مصلحة الشعب الإسرائيلي عادل في الظاهر وبالنسبة إلى البشرية هو جائر فظيع. أما الحادث هذا وحده لا معنى له ولا أهمية.
وإن من يقرأ سجلات الحكومة الإفرنسية، ومعلومات السياسيين والكتاب الذين شاهدوا الحوادث وكانت لهم يد فيها؛ يبالغ - لا شك - في التعنيف والتنديد بما يدعى «دور الهول» إذا أغفل الغاية الرئيسية التي بسببها ومن أجلها تأسس.
ومن كان نظير كارليل سريع التأثر صعب المراس حاد المزاج يحكم على الحوادث هذه بالنسبة إلى انفعالات نفسه لا بالنسبة إلى الظروف التي نشأت عنها؛ ولذلك لا نرى في كتابه إلا مجموعة قصائد مدح وفخر وهجو ورثاء قلت مجموعة قصائد؛ لأن في أسلوب نثره جمال الشعر وزخرفه، فهو يسير منشدا وراء عربة المنتصرين وباكيا في موكب المنهزمين، يرفع اليوم قوس نصر للقوة المادية ويبني في الغد مذبحا للشفقة والحنان، وبين هذه المتناقضات يصبح القارئ حائرا تائها، كيف لا وهو يتوقع من المؤرخ أكثر مما يتوقعه من الشاعر. نريد أن نعرف كيف تخفض آلام البشر وشقاؤهم، لا كيف أن نندب هذا الشقاء ونرثيه.
إن في حياة الأجيال الماضية أمثولة للأجيال الحاضرة والمقبلة، والمؤرخ الذي لا يظهر هذه الأمثولة فيلهو عنها في وصف البؤس والشقاء لا يخفض شقاءنا ولا يعلمنا شيئا. إن في أعمالنا اليوم أمثولة ثمينة لأبناء الغد هي الكنز الوحيد الدائم الذي يرثه عنا الخلف بواسطة التاريخ، ومن واجبات المؤرخ المحافظة على هذا الكنز الثمين بعد الوقوف عليه وإذا كان ضائعا بين أنقاض الثورات والحروب أو مختفيا في بحار الأهواء والتعصب عليه أن يفتش عنه بصبر وعناء وينيره في الناس مصباح هدى وسلام.
إن الحلقة التي تصل الماضي بالمستقبل هي حلقة الترقي الدائم مما كان إلى ما سيكون، والحوادث التي تتخللها هي حلقات بعضها يشتبك ببعض، وليست متفرقة متشتتة كما يزعم كارليل والمؤرخ الذي يكمل سلسلة الترقي أو بالحري يزيد في توثيقها يخدم الناس خدمة حقيقية، ولكن كارليل لا يعتقد بحياة جامعة شاملة، حياة روحية دائمة يتصل آخرها بأولها
Неизвестная страница