أما العقيدة فجميلة في ذاتها؛ لأنها تشرح كل شيء وتفسره تفسير الماء بالماء، ولكنها لا تبرهن على شيء برهانا حسيا، ولم يقدر واضعها ولا أحد من غلاتها أن يرينا كيف يترقى الإنسان من حيوان كما ترينا الطبيعة كيف تنشأ الفراشة وتترقى من زيز الشرنقة. البرهان الحسي الذي يحملنا على تأكد نشوء الفراشة من الزيز هو بعيد عن عقيدة النشوء والارتقاء التي طعنها الدكتور فيرخو بمديته فأغمي عليها.
وللعقيدة فضيلة أخرى تؤهلها للموت، وهي أن الأوليات فيها مخلة فهي تنسب أصل هذه الحياة البشرية ضمنا لا تصريحا إلى التولد الاختياري والتكوين الذاتي، وهذه من الفقاقيع التي أخذها باستور وظل ينفخ فيها حتى فجرها، ولا تهمني اكتشافات الدكتور سيمون من هذا القبيل فهو أميركي وكفاه بذلك تعريفا. ولم يقم أحد من الدرونيين بعد باستور وفيرخو ليلم شعث العقيدة المشهورة ويركبها ثانية إلا الدكتور هكل الألماني، وهكل هذا من الألمان الذين يحسنون الهزل فهو يريد أن يسلي الشعب الألماني ويلهيه إذ رأى حالتيه الصناعية والتجارية في اضطراب وتقهقر، فلا لوم عليه إذا طفق يضرب على طنبور دروين وينفخ في فقاقيعه «القردية.»
ما هي السعادة
ما هي السعادة، وأين هي، هل هي في الأعمال الصالحة، هل هي في الحياة النقية التي يعيشها أفراد قلائل، هل هي في الصداقة المجردة الحقيقية، هل هي في الاعتزال والوحدة، هل هي في الثروة أو في الصحة أو في الشهرة والمجد، أو هل هي في الحب الجنسي والعيشة العائلية الصالحة؟ فإن لم تكن في إحدى هذه الحسنات أو السيئات أين هي إذا، هل هي في القبر أو هل هي خيال يزورنا في المنام ويختفي قبل أن يقول: عليك السلام؟ لا يا صديقي إن السعادة منتشرة في العالم انتشار الهواء، ولربما قلت لك إن السعادة هي أن تتنشق من الهواء النقي بقدر إمكانك، وأن تمشي في البرية بضع ساعات كل يوم، وأن تستحم في كل بحيرة تصل إليها لتصبح صحتك كصحة الذئب أو العجل على الأقل. ولكن هذه وسائل حسنة فقط، هي طرق مستقيمة تؤدي إلى السعادة بأقرب ما يمكن أن يصل إليها أحد من البشر.
أما السعادة بالذات فهي إتقان الصانع صنعته والتوفر عليها، السعادة هي في العمل ولا سيما العمل الذي يتطلب إجهاد الفكر والاختراع. السعادة هي اللذة التي يجدها الإنسان في إتمام عمله على غاية ما يمكن من الكمال، هي اللذة التي يجدها المصور في صورة يصورها، والنقاش في تمثال يحفره، والشاعر في قصيدة ينظمها، والكاتب في رسالة يؤلفها والموسيقي في لحن يبتكره، والعالم في اكتشاف حقيقة علمية جديدة، والإسكاف في حذاء يصنعه والخياط في ثوب يخيطه، والفلاح في حقل يحرثه ويزرعه ويحصده. وقس على ذلك.
كل صنعة يتخذها الإنسان هي شريفة مقدسة بشرط أن يتقنها، بشرط أن يتابعها بنشاط واستقامة وحكمة وحذق وحماسة. وعندي أن النجار الذي يصنع مكتبة جميلة مثلا لهو أشرف من الأديب الذي لا يحسن عملا مفيدا، الأديب الذي يحتقر الأعمال اليدوية ويحمل نفسه أثقال الهيئة الاجتماعية، فيفادي بمهجته خدمة للإنسانية. خذ لك صنعة شريفة وأتقنها ما استطعت ومارسها باستقامة وقناعة وثبات فتستغن عن السعادة الفاسدة التي يطلبها جمهور الناس، السعادة التي ينهك الجاهل قواه في الركض وراءها ويموت أخيرا وهو بعيد عنها. •••
كتبت هذه الفقرة ونشرتها فورد على الجريدة من القراء ردود عديدة فيها كثير من الاعتراضات الفارغة والاحتجاجات السخيفة. وأما الذين قالوا قولا معقولا فاثنان، أحدهما صحافي معتزل والثاني قسيس متجول. ولا شك عندي أن الصحافي اعتزل الصحافة ليقترب من السعادة، والقسيس خرج من ديره ليفتش عليها في العالم، وبما أن مهنة الكاهن خارجة عن دائرة الفنون والصنائع المقيدة جاء اعتراضه في محله إذا قال: إن السعادة الحقيقية هي التي يتحد فيها الإنسان مع خالقه، هي قائمة في الصوم والصلاة والقنوت. وغير ذلك من المتاجر الدينية التي يتاجر بها رؤساء الأديان ولو فكر حضرة القس وسبر بمسبار النقد الناموس الذي أشرت إليه لأيقن بأنني أوافقه بالحرف إذا كنا لا نتفق بالروح، يعجبني كثيرا اتحاد الإنسان مع خالقه، ولكن لو سئلت وسئل القس المحترم عما نفهمه بالخالق لما كنا نرى ونسمع بعضنا لما يكون بيننا من بعد المسافة.
أنا روحي ولست ماديا. إني أرى في كل ما حولي من الطبيعة شيئا من الجوهر الإلهي الذي نسمي مصدره الأصلي إلها أو خالقا وكلما ترقى الإنسان ازداد في عينه الجمال الطبيعي المحيط به، وكلما درس الحكيم الطبيعة قرب من الناموس الرئيسي السائد في كل جزء منها، وهذا الاقتراب من الناموس هو ما أسميه ويسميه القس المحترم أيضا «اتحاد الإنسان مع خالقه.»
وأما الصحافي فيظن أن تعريفي للسعادة ناقص إذ قلت : إنها قائمة في إتقان الصانع صنعته ومزاولته إياها بصبر وجلد وسرور، بحذق وقناعة وحكمة. واللبيب الذي يمعن قليلا ويقرأ ما يتخلل السطور أيضا يرى بأنني كدت أنكر وجود السعادة في العالم بعد أن فتشت عليها سنين عديدة بالفتيل والسراج. كدت أقول مع المراسل الفاضل: السعادة «على فرض وجودها» هي كذا وكذا. ولكنني وجدت بعد أن فتشت حولي بأن السعادة الحقيقية هي التي تنشأ وتنمو في الداخل، في الروح. أنا أكتب فيما اختبرته فقط، وإذا طابقت اختباراتي اختبارات الغير فلهم أن يستفيدوا بها إما بالاقتداء وإما بالحياد.
لو أجهد المرء نفسه في جمع المال وأفنى حياته في احتكار صنف من البضاعة حتى يقال عنه أخيرا إنه «ملك السكر» أو «ملك الفحم» أو «ملك القطن» أيكون يا ترى سعيدا، ولو أصبح أغنى من روتشيلد أو روكفلر وكانت معدته ضعيفة ورئتيه معتلتين أيكون يا ترى سعيدا، ولو كان صحيح الجسم والعقل وكثير المال والنشاط ولكنه خال من الشفقة والمحبة والحنو، أيكون يا ترى سعيدا. لو كان غنيا في آدابه وفي صحته وماله وفقيرا في الفضائل التي هي دعائم العائلة أيكون يا ترى سعيدا. إني أتفق من بعض الوجوه وذاك الصحافي في ما قاله عن بساطة العيش وسذاجته، ولكنني أنكر أن المجد والشهرة والعظمة لا تأتي أبدا عن طريق الحياة البسيطة التي تزينها القناعة وتكللها التأملات الروحية، من كان قنوعا في حياته من الفلاسفة والحكماء كان - ولا شك - سعيدا.
Неизвестная страница