350

Рейханият

الريحانيات

Жанры

دخلت المدينة التي كنت أعرفها فرأيتني فيها غريبا، سرت في المدينة التي أحبها قلبي فهالني ما شاهدت، وقفت على منعطف جادة من جاداتها الكبرى، علني أرى أحدا من أصحابي وإخواني، فمر أمامي أناس بل أشباح من الناس لا أعرفهم ولا يعرفوني، لبثت حائرا مستغربا لا أدري أبين قومي أنا أو بين قوم من الأغيار بل من غير ذا العالم.

ولا شك أني في المدينة التي كنت أعرفها وكانت تعرفني ولكن قومي - أين قومي؟ أين إخواني؟ أين أحبابي؟ أفي هذه الأطمار من ودعت أمس سريا؟ أهذه الأشباح ما تبقى من تلك النفوس الأبية؟ أفي هذه الهياكل من كانوا بالأمس من الكرام الأماجد ينشدون أسمى الأماني، ويشيدون للعلم المعاهد ويرفعون للآداب الأعلام؟ أفي هذه الأجسام المتداعية من عرفتهم رجالا أشداء يتاجرون ويعلمون، يجاهدون ويسعدون، يأكلون ويضحكون ويلعبون؟

وقفت ساعة على منعطف الجادة والكآبة ملء فؤادي، ألقيت السلام على أحد المارين فلم يرد علي، ولم يقف ليرى من سلم، ظل سائرا في سبيله مثل سواه منكس الرأس، محني الظهر، واجما واجفا، ساكتا قانطا، لله من ذي الهياكل وذي الأشباح، رأيتهم يمشون كأن في أرجلهم قيودا، رأيتهم يتسللون كأنهم هم المجرمون لا حكامهم، رأيتهم يتحايدون بعضهم بعضا كأن فيهم جربا، قلما يقف أحد منهم في الشارع، وقلما يكلم أحد أحدا، كأن كل إنسان منهم غريب في البلد، منكسو الرءوس محنيو الظهور يسيرون.

وإذا رفع إليك أحد وجهه ظننته أثرا من الآثار، أو رمزا من رموز الجوع والفناء، فترى العين منه جامدة غائرة تكاد تختفي تحت جفن عليل ذليل، وترى الفم مفتوحا مرتخيا كأن في أعصابه شللا، وترى الوجنتين كأنهما طليا برماد جبل بالدموع.

إنما هؤلاء أبناء المدينة التي كنت أعرفها وكانت تعرفني، المدينة التي أحبها قلبي، المدينة التي بثثت فيها شيئا من نفسي، المدينة التي أحبت في الإيمان بالناس، وجددت في حب الوطن وحب الحياة، وأين هي اليوم من الحياة؟ وأين فيها اليوم من كانوا بالأمس من أمراء الحياة؟

رحت أبحث عن صديق لي منهم، وصلت إلى بيته فوجدت الباب والشبابيك كلها مقفلة، سألت صاحب الدكان قرب البيت فلم يجبني، لم يكلمني، كررت السؤال فهز كتفيه متجاهلا، قلت: إذا كنت لا تعرفني أفلا تفهم لغتي؟ أكلمك بالعربية، وأنا مثلك من هذه البلد، بل أنا أخوك ابن وطنك، لا مأمور حكومة ولا جاسوس، وما غايتي من السؤال سوى ...

فقاطعني الرجل قائلا: رح عني يا شيخ، رح عني.

ذهبت مطرودا ورحت أبحث عن صديق آخر لي، بيته في حي الأعيان، وقفت في الباب أقرع الجرس، فجاء الخادم في زي الأرناوط يسألني ما الخبر، كلمته بالعربية فأجابني - وكأنه يسبني - بلغة لا أفهمها وأقفل الباب.

قفلت راجعا والغم يقودني إلى بيت آخر في الحي، طرقت الباب ففتحه جندي سألني بالعربية حاجتي.

قلت: جئت أزور جرجي أفندي ... فأجاب مستعجبا: ليس هنا، هذا بيت تيمور باشا، فقلت: وجرجي أفندي؟ فقال: لا أعرفه، وأقفل الباب.

Неизвестная страница