4
كفانا ما تقدم في الوطنية، ولكننا نتسائل كيف ينشأ حب الوطن؟ وما هي أسبابه؟ أهل هو في اللغة؟ إن الإنكليزية عزيزة عندي كالعربية، أم هو في المعيشة الأهلية؟ أم في العادات والتقاليد؟ فما أحببت وطني لما كنت فيه، وما راقني فيه عيش رأسه البساطة والسذاجة ولا كنت أعرف إلا القليل من جماله، لذلك كنت مسرورا يوم ودعت لأول مرة أهلي وهجرت الوطن.
أو لعل حب المرء بلاده ينشأ عن المذهب القومي؟ أو ينحصر في دين آبائه وأجداده؟ لا أدري ولكني أعلم أن تلك البلاد التي أدعوها وطني كانت ولا تزال محرومة من مذهب قومي خاص، كانت في عهد أنطيوخس الكبير بل في أيام زميلي الكاتب الفينيقي سنشوناثون كما هي الآن، أما دين أجدادي فقد كان في جيب قبائي الذي خلعت يوم ركبت البحر مرتحلا.
ما هو السر إذن في حب الوطن أو في ذاك المرض الوطني المزمن؟ ألعله سحر الكهان أو دعاء آلهة الأوطان! قد ألبي الدعاء فأعود فأرى الهيكل خرابا، وقد أعود مسحورا فتحل رقية السحر عند الباب.
أو هي هدية الطبيعة بل هداياها عند الباب ودونه، التي تعاون الساحر وتعطر كلمات الآلهة ونفحاتها؟ أراني ألتمس في ذا الموضوع نور الفكر لا نور العاطفة؛ لأن الجمال وحده لا يخفف من آلام الحب والمعرفة.
أو لعل ألاعيب الصبا تمسي عندنا ألاعيب الروح؟ ها هنا إخالني اقتربت من الحقيقة، أجل إن علينا أن نعود ثانية إلى الطفولة لنفوز بشيء من البهجة والحبور في حب الوطن، وفي تلك المناظر المطبوعة صورها بالأذهان منذ أيام الصبا.
أجل إن أحلام الفتوة وسذاجتها الجميلة النقية وجمال الطبيعة الظاهر والكامن معا، لتتصل أسبابها بأشجار الوطن وأزهاره وبسواقيه ومروجه وهضابه، أجل، إن كل ما يشغف الولد في سنيه المقدسة لينطبع في ذاكرته النقية فيكون منه لنفسه حياة روحية، أبدا جديدة، ولكنها كالأزهار تخضع لناموس التطور ومشيئته، فهي تنمو، وتبرعم، وتذبل، وإذ تذبل تفرش من أوراقها سجادة تحت أقدام الذكرى، وتطلي بالذهب الباهت شفق الروح وتملأ ما يستقر عندها أريجا منعشا طيبا.
إن روح الولد مستنبت يمسي جنة أسر ما فيها أزهار الذكرى وأحزنها أشواك الهجر، وهذا - على ما أظن - السر في الحنين إليها. بل هي معبد دفنت فيه ملائك أحلامنا وأبطال التصور والأمل.
وسيكون زهر المسيح شفيعي لدى القديس في كنيسة القرية، بل لدى الإله إلهي في معبد الوادي، فإني عندما أقتلع تلك الأزهار من مكامنها في الصخور أجتهد أن أحافظ كذلك على أوراقها المطرزة، وعلى كل عقدة من لفافتها القرمزية النحيفة، فأشاطرها حياة الهجر وحياة أخرى منشأها الحب الإنساني. وإني لأجد في الاثنتين لذة لا يماثلها شيء في الأحلام والآمال المادية.
أما مستنبتات أمهاتنا - وفيها الحبق والريحان - فكم لقينا في تخريبها من أزهار السرور، وتلك الأزهار نفسها وتلك النباتات الطيبة الزكية التي كنا نتلفها لاعبين، ما زالت تنمو وتبرعم لتنشر حولها ثقة بالنفس وأملا بالحياة، وهذا كل ما يتطلبه البشر الفاني المتعثر في فيافي الخوف والشكوك.
Неизвестная страница