وذكر في "شرح ذات الشفاء": أن خديجة كانت من أوسط نساء قريش نسبًا، وأعظمهن شرفًا وأكثرهن مالًا وأحسنهن جمالًا، فخطبوها فأبت، وأرسلت إلى النبي ﷺ دسيسة امرأة تقول: ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به. قالت: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى المال والجمال والشرف ألا تجيب؟ قال: ومن هي؟ قالت: خديجة. قال: ومن لي بذلك؟ فقالت: المرأة: بلى، أنا أفعل، فذهبت فأخبرتها، وذكر ذلك النبي ﷺ لأعمامه، فخرج معه حمزة ﵁ حتى دخل على أبيها فخطبها فأجاب. وأصدقها عشرين بكرة، وحضر أبو بكر ﵁ ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وضئضئ معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتًا محجوجًا، وحرمًا آمنًا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم عن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح به، فإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مالي كذا، وهو والله بعد هذا له بناء عظيم، وخطر جليل. وقيل: أصدقها اثنتي عشرة أوقية ذهبًا، ونصف أوقية، وكانت أقل أوقية إذ ذاك أربعين درهمًا. وقيل: إن والمزوج لها عمها عمرو بن أسد، وإنه قال لما خطبها عمه: هذا الفحل لا يقرع أنفه، أي لا يضرب أنفه؛ لأن الفحل الخسيس يضرب على أنفه ليرتدع عنة الناقة الكريمة، وقيل: إن المزوج لها أخوها عمرو، وقيل: إن أباها كان يرغب عنه فلما سكر خطبت منه فزوجها، ثم صحا فأنكر ذلك، ثم رضيه وأمضاه، وقيل: إن أختها عرضتها عليه ﷺ وعمره خمس وعشرون سنة، وقيل: ست وعشرون، وقيل: إحدى وعشرون، وقيل: ثلاثون سنة، وكانت خديجة ﵂ بنت أربعين سنة، وقيل: خمس وأربعين، وقيل: ثلاثين، وقيل ثمان وعشرين، وقيل: خمس وثلاثون، وقيل: خمس وعشرين، وكان تزوجه بها، ﷺ في صفر، بعد رجوعه بشهرين وخمسة وعشرين عامًا.
ولما بعث ﷺ جاءه جبرائيل بقوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) قيل: أتاه جبرائيل ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له برسالة يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان فجاءه جبرائيل في حراء، وإليه أشار الصرصري بقوله:
وأنتَ عليهِ أربعونَ فأشرقتْ ... شمسُ الرِّسالةِ منهُ في رمضانِ
وذكر في كتاب "التبيين": أنه ﷺ أخبر خديجة فقالت: أبشر يا محمد، وقيل: يا ابن عم فإني أرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما رأى وما سمع، فقال: قدوس قدوس، والذي نفسي بيده لئن صدقت ياخديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت.
فأخبرته بما أخبرها ورقة فسري عنه ﷺ بعض ما هو فيه من الهم، ثم لقيه بالطوق، فاستخبره فأخبره، فقال: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء لموسى، ولئن أدركت ذلك لأنصرن الله نصرًا تعلمه، ثم أدنى رأسه فقبل يأفوخه فانصرف رسول الله ﷺ وقيل في رواية: إن خديجة ﵂ قالت: أبشر يا رسول الله، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. وفي رواية: إنها ذهبت إلى عداس، وكان نصرانيًا من أهل نينوى، قالت: يا عداس، أذكرك الله إلا ما أخبرتني، هل عندكم علم من جبرائيل؟ فقال عداس: قدوس قدوس، هو أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى، وفي رواية: أنها كتبت إلى بحيري تسأله عن ذلك وعن جبرائيل فقال: قدوس قدوس يا سيدة قريش أنى لك بهذا الاسم؟ إنه السفير بين الله وبين أنبيائه وروي عنه ﷺ أنه قال: "لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين لأنه آمن بي وصدقني". وجزم ابن كثير بإسلامه. وقال البلقيني: إنه أول من آمن من الرجال. وكذا قال الحافظ العراقي. ونقل الثعلبي المفسر اتفاق العلماء على أن خديجة أول من أسلم. قال النووي: إنه الصواب وتبعه ابن الأثير.
1 / 43