ومن الغلط الواضح أن يقال: «لا تراهن على وجود الله، فهذا برهان على عدم وجوده» وذلك لأن الذي يشك وينشد العرفان لا يراهن على السلب أو الإيجاب لا ريب.
وفضلا عن ذلك فإن هذه المادة تبدو على شيء من الفحش والسخف، ولا يناسب هذا المبدأ في اللعب والخسر والربح أهمية الموضوع مطلقا.
وأضف إلى ذلك كون مصلحتي في الإيمان بالشيء ليس دليلا على وجود هذا الشيء، وأنت تقول لي: أعطيك سلطان العالم إذا ما اعتقدت أنك على حق، وحينئذ أتمنى من صميم فؤادي أن تكون على حق، ولكنني لا أستطيع تصديقك حتى تثبت لي ذلك.
ويمكن أن يقال لمسيو بسكال : ابدأ بإقناع عقلي، ولي نفع في وجود إله لا ريب، ولكن إذا كان منهاجك يقول: إن الله لم يكن إلا من أجل قليل من الناس، وإن عدد الأخيار بالغ القلة، وإنني لا أقدر على شيء بنفسي، فأرجو منك أن تقول لي: أي نفع لي في تصديقك؟ ألا يكون لي نفع واضح في أن أقنع بالعكس؟ وبأي وجه تجرؤ على إطلاعي على سعادة بالغة، لا يكاد يحق لواحد من مليون إنسان أن يتطلع إليها؟ إذا أردت إقناعي فاسلك طريقا أخرى، ولا تذهب تارة إلى تحديثي عن النصيب والرهان والقمار، وتارة إلى تخويفي بالأشواك التي تلقيها في الطريق التي أريد سلوكها واتباعها، ولا تنفع برهنتك لغير صنع ملحدين لولا أن جميع صوت الطبيعة ينادي بوجود إله واحد بقوة تقابل ما في تلك الدقائق من ضعف. (6)
وإني، حين أبصر عمى الإنسان وشقاءه، وحين أبصر المناقضات الغريبة التي تبدو في طبيعته، وإني حين أنظر جميع الكون الصامت والإنسان الجاهل المتروك لنفسه، والتائه في هذه الزاوية من الكون غير عالم من وضعه فيها، ولا ما يصنع فيها، ولا ما يصير إليه بموته، يعتريني ذعر كما لو كنت إنسانا أخذ - وهو نائم - إلى جزيرة قفر مخيفة، فإذا ما أفاق لم يعرف أين هو، ولم يكن حائزا أية وسيلة كانت للخروج منها؛ ولذا فإنني أعجب من عدم الغم من حال بالغة هذه الدرجة من الشقاء.
إني - حين قراءتي هذا التأمل - تناولت كتابا من صديق لي مقيم ببلد بعيد جدا، وإليك ما جاء فيه:
أنا هنا كما تركتموني، فلست بالغ الفرح ولا بالغ الترح، ولست بالغ اليسر ولا بالغ العسر، وأتمتع بصحة تامة حائزا كل ما يجعل الحياة طيبة خالية من الحب والطمع والطموح والحسد، وترونني أجرؤ على عد نفسي سعيدة جدا ما بقي هذا.
يوجد كثير من الناس من هم سعداء مثله، ويوجد من الناس من هم كالحيوانات، فهذا الكلب يضجع ويأكل مع صاحبته، وهذا آخر يدير السفود؛ فيبدو راضيا أيضا، وهذا ثالث يكلب فيقتل، وأما أنا فإني حين أرى باريس ولندن لا أرى سببا لدخول باب هذا الغم الذي حكى عنه مسيو بسكال، وإنما أرى مدينة لا تشابه جزيرة قفرا في أي شيء كان، فهي عامرة موسرة مهذبة، يكون الناس فيها سعداء بمقدار ما تقتضيه طبيعة الإنسان، وأي رجل عاقل يكون مستعدا لشنق نفسه؛ لأنه لا يعرف كيف يرى الله وجها إلى وجه، ولأن عقله لا يستطيع أن يكشف سر الثالوث؟ وهكذا كان يجب أن يقنط من عدم حيازة أربع أرجل وجناحين.
ولم ننفر من وجودنا؟ ليست حياتنا من الشقاء بمقدار ما يراد إيهامنا فيه، وليس عد العالم سجنا مظلما ضيقا، وعد جميع الناس مجرمين يعدمون، إلا فكرة متعصب، ويعد فكرة شهواني كل ذهاب إلى أن العالم دار نعيم لا ينبغي أن تشتمل على غير اللذة، ويعد من تفكير رجل عاقل كل ذهاب إلى أن الأرض والناس والحيوانات هي ما يجب أن تكون عليه ضمن نظام القدرة الربانية. (7) «يرى اليهود» أن الله لا يدع الأمم الأخرى في هذه الظلمات إلى الأبد، وأنه سيظهر منقذ للجميع، وأنهم في العالم ليبشروا به، وأنهم خلقوا ليكونوا مبشرين بهذا الأمر العظيم خاصة؛ وليدعوا جميع الأمم لتنضم إليهم في انتظار هذا المنقذ.
أجل، إن اليهود قد انتظروا هذا المنقذ دائما، غير أن منقذهم هو لأنفسهم، لا لنا، وهم ينتظرون مسيحا يجعل اليهود سادة النصارى، ونحن نأمل أن يؤلف المسيح بين اليهود والنصارى ذات يوم، واليهود يرون في هذا عكس ما نرى تماما. (8)
Неизвестная страница