وسألني بعض أهل العلم أن أكتب له قصة إلى جعفر بن عبد الواحد القاضي، وقال: اكتب له قصة سهلة بليغة الألفاظ، فقلت له: دعني أكتب لك ما يصلح للقضاة، فغضب وقال: ما أسأل أن تعطيني شيئا إنما أسألك هذا المعنى الرخيص. فاحتملت عتبه لذمام، فكتبت له قصة لا تصلح أن تدفع إلا لرؤبة بن العجاج يقرأها، أو الطرماح، فلما حصلت بيد القاضي أراد قراءتها، فإذا هي مغلقة عليه. فقال له: أنت كتبت هذه القصة، قال: نعم، قال: إذن فاقرأها، فذهب ليقرأها، فإذا هي بالسودانية استعجاما عليه. فقال له: أصلح الله القاضي إنما أقرأها في بيتي. فقال له: فاطلب حاجتك إذن في بيتك، فرجع إلي غضبان أسفا يشتم ويؤذي وسألني أن أكتب له قصة على ما أرى، فكتبت له كتابا يشبه أن يكون من مثله إلى القضاة، فقرأها وقضى حاجته، وعلم أنه لم يكتب واحدة منهما. والكتاب إذا لم يكن شبيها بحاجة صاحبه كان أحد الأسباب المانعة، والمعاني كلها ممتثلة والكلام مشبعا، ولكن سياسته صعبة وتأليفه شديد إلا على جهابذته، وفرسانه أمراء الكلام يصرفونه كيف شاءوا، ولا يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، ويكون اللفظ الأسبق إلى الأسماع من معناه إلى القلوب.
الجاحظ كان لفظه في وزن إشارته، وطبعه في معناه في مطابقة معناه.
ذكر الحسن بن وهب أحمد بن يوسف. فقال: ما كنت أدري ألفظه آنق أم معناه، أو معناه أجزل أم لفظه؟ والمعاني وإن كانت كامنة في الصدور؛ فإنها مصورة فيها ومتصلة بها، وهي كاللآلئ المنظومة في أصدافها، والنار المخبوءة في أحجارها؛ فإن أظهرته من أكنانه وأصدافه تبين حسنه، وإن قدحت النار من مكانها وأحجارها انتفعت بها، وإلا بقيت محجوبة مستورة، وربما يستثار الكامن منها ويستخرج المستتر من جواهرها بقدر حذق المستنبط وصواب حركات المستخرج، وقصد إشارته ولطف مذاهبه، وكذلك ليس كل ناطق ولا كاتب يوضح عن المعنى ولا يصيب إشارته، وكلما كان الكلام أفصح والبيان أوضح، كان أدل على حسن وجه المعنى الخفي بالروح الخفي، واللفظ الظاهر بالجثمان الظاهر، وإذا لم ينهض بالمعنى الشريف لفظ شريف جزل، لم تكن العبارة واضحة ولا النظم متسقا، والدال على المعنى أربعة أصناف : لفظ وإشارة وعقد وخط ، وذكر أرسطاطاليس خامسا، وهي التي تسمى النصبة، وهي الحالة الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف الأربعة الناطقة بغير لفظ، والمشيرة إليه بغير يد، وذلك ظاهر في خلق السماوات والأرض، وفي كل صامت وناطق، وهي داخلة في جملة هذه المعاني الأربعة وخارجة منها بالحلية، ولكل واحد من هذه الدلائل صورة مخالفة لصورة صاحبتها، وحلية غير مشاكلة لحلية أختها، غير أنها - في الجملة - كاشفة عن أعيان المعاني، وأوضح هذه الدلائل صنفان منها: وهما اللسان والقلم، وكلاهما يترجمان ويدلان على القلب، ويستمليان منه ويؤديان عنه ما لا تؤدي هذه الأصناف الباقية.
وأما اللسان فهو الآلة التي يخرج الإنسان بها من حد الاستبهام إلى حد الإنسانية؛ ولذلك قال صاحب المنطق: حد الإنسان الحي الناطق، وإنما يبين عن الإنسان اللسان وعن المودة العينان، والله - سبحانه - رفع درجة اللسان فأنطقه من بين الجوارح بتوحيده، وما جعل الله من عبر عن شيء، مثل من لم يعبر عنه.
الأعور التيمي:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وقال آخر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
Неизвестная страница