ولعبد الحميد في وصف الإخاء:
فإن أولى ما اعتزم عليه ذوو الإخاء، وتوصل إليه أهل المودات ما دعا أسبابه صدق التقوى، وبنيت دعائمه على أساس البر، ثم أنهد إلينا حزين التواصل، وشيده مستعذب العشرة فادعم قويا وصفى مرنقا، وبخاصة الحقة منعطفة وسكنت به القلوب أنيسة، وسمت من مواصلته الهمم مستعلية عن كل زائغ معتاف، ومخوف عارض يحترم مسكة الإخاء، ويختار مربوب المقة ضنا بما استعذبوا من محمود وثائقه، وازديادا فيما تمطقوا به من حلاوة جناه، فإذا استحكم لهم مدخور الصفاء بثبات أواخيه، وظهور أعلامه ومحصول مخبره وثقة مواده، كان سرورهم باعتلاقه، وابتهاجهم بوجدانه وإنما هم صلته، وبذلهم رعايته، وحياطتهم محمودة، بحيث نالوا من معرفته حظوته، واستولوا عليه من مزية كرمه، وتعرفوا من ذخيرة عائدته ومأمون حفاظه، وكشف لهم عن نفسه مظهرا أعلامه مبديا دفينته، طارحا قناع سره، معلنا مكنون ضميره في نأي الدار وجدان المجتمع، بإظهار ما استتر من المحاسن، وبث في الحقب من المكارم، قياما لهم بالنصرة، وحياطا للمودة، وترغيبا في العشرة، فكان أكهف ملجأ، وأحرز حصن، وأحصف جنة، وأعون ظهير، وأبقى ذخيرة، وأعظم فائدة، وأشرف كنز، وأفخر صنيعة، وآنق منظر، وأينع زهرة أكثر الأشياء ريعا، وأنماها وصلا، وأمدها سببا، وأقواها أيدا، وأحلاها ذوقا، وأدعمها ثباتا، وأرساها ركنا، لا يدخل مستحقها سآمة ملال، ولا كلال مهنة، ولا تثبيط ونية، ولا ضعف خور لنزول بائقة، أو طروق طارقة من عوارض الأقدار وحوادث الزمان، بل مواسيا في أزمتها، متورطا غمرات قحمها متدرعا هائل بوائقها، مستلحما نواظر مقاطعها، حتى تصير به الأقدار إلى تناهيها، ويبلغ به القضاء مقداره غير منان النصرة، ولا برم التعب، يرى تعبه غنما ونصبه دعة، وكلفه فائدة، وعمله مقصرا، وسعيه مفرطا، واجتهاده مضيعا، عدل الولد في بره، والوالد في شفقته، والأخ في نصرته، والجار في حفظه، والذخر في ملكه، فأين المعدل عن مثله، أو كيف الإصابة لشبهه، أو أنى عوض من فقده - جمعنا الله وإياك على طاعته وألفنا بمحابه، وجعل أخوتنا في ذاته.
قد حددت لك أواخي الإخاء متشعبا، ووصفته لك مخلصا، وانتهيت بك إلى غاية أهل العقل منه، وما تواصل أهل الرأي عليه، ودعا إليه الإخاء من نفسه، منتطقا به ضامنا له، ما فرط في ذلك تقصير من أهله، وداخله تضييع من حملته، أو حاطه إحكام وكنفه حفاظ من رعاته.
وافاني كتابك بما سألت من ذلك وعقلي محصور، ورأيي منقسم وذهني فيما يتأهب به الأمير ... والله من خرز الترك، واختلاف رسله إلى جبال اللان والطبران وما والاهما، بنوافذ أمره ومخارج رأيه، فأنا مصيخ السمع للفظه، عقل العقل عن سوى أمره، محتضر الذهن في تدبيرهم، ذهل القلب عن تقنين القول، وتشعيب الكلام في تصنيف طبقات الرجال ومن أين دخل عليهم نقص الإخاء؟! وكيف خانهم مونق الصفاء؟! وقد صرحت لك عن رأي ذوي الصفاء، وكشفت لك خباء الإخاء، وجمعت لك إلف مودة أهل الحجى، فتلقى ما وصفت لك بقلب فهم عقول ذي ميزة يقظان، وذهن جامع حافظ ذي ثقافة راع - أحضرك الله عصمة التوفيق وسددك الله لإصابة الرشد، ومكن لك صدق العزيمة، والسلام.
ومن رسائل عبد الحميد ما كتب عن مروان إلى هشام يعزيه بامرأة من حظاياه:
إن الله تعالى أمتع أمير المؤمنين من أنيسته وقرينته متاعا مده إلى أجل مسمى، فلما تمت له مواهب الله وعاريته قبض إليه العارية، ثم أعطى أمير المؤمنين من الشكر عند بقائها والصبر عند ذهابها أنفس منها في المنقلب، وأرجح في الميزان وأسنى في العوض - فالحمد لله، وإنا إليه راجعون.
وكتب موصيا بشخص يقول:
حق موصل كتابي إليك كحقه علي إذ جعلك موضعا لأمله، ورآني أهلا لحاجته، وقد أنجزت حاجته فصدق أمله.
وكتب في فتنة بعض العمال من رسالة:
حتى اعتراني حنادس جهالة ومهاوي سبل ضلالة، ذللا لسباقه وسلما في قياده إلى نزل من حميم وتصلية جحيم، سوى ما أنتجت الحفيظة في نفسه من عوائد الحسك، وقدحت الفتنة في قلبه من نار الغضب مضادة لله تعالى بالمناصبة، ومبارزة لأمير المؤمنين بالمحاربة، ومجاهرة للمسلمين بالمخالفة إلى أن أصبح بفلاة قفر، ونية صفر بعيدة المناط، يقطع دونها النياط، وكذلك الله يفعل بالظالمين، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون.
Неизвестная страница