واعلم أن خفض الصوت، وسكون الريح، ومشي القصد من دواعي المودة، إذا لم يخالط ذلك بأو ولا عجب، أما العجب فهو من دواعي المقت والشنآن.
تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ومن حسن الاستماع: إمهال المتكلم حتى يقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجواب، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي لما يقول.
واعلم أن المستشار ليس بكفيل، والرأي ليس بمضمون، بل الرأي كله غرر؛ لأن أمور الدنيا ليس شيء منها بثقة؛ ولأنه ليس شيء من أمرها يدركه الحازم إلا وقد يدركه العاجز، بل ربما أعيا الحزمة ما أمكن العجزة، فإذا أشار عليك صاحبك برأي، فلم تجد عاقبته على ما كنت تأمل، فلا تجعل ذلك عليه لوما وعذلا تقول: أنت فعلت هذا بي، وأنت أمرتني ولولا أنت ولا جرم لا أطيعك؛ فإن هذا كله ضجر ولؤم وخفة ، وإن كنت أنت المشير، فعمل برأيك أو ترك فبدا صوابك، فلا تمنن ولا تكثرن ذكره، إن كان في نجاح، ولا تلم عليه إن كان استبان في تركه ضررا تقول: ألم أقل لك؟ ألم أفعل؟ فإن هذا مجانب لأدب الحكماء.
اعلم فيما تكلم به صاحبك أن مما يهجن صواب ما تأتي به، ويذهب بهجته ويزري بقبوله عجلتك في ذلك أن يفضي إليك بذات نفسه، ومن الأخلاق السيئة على كل حال مغالبة الرجل على كلامه والاعتراض فيه والقطع فيه، ومن الأخلاق التي أنت جدير بتركها: إذا حدث الرجل حديثا تعرفه ألا تسابقه إليه، وتفتحه عليه وتشاركه فيه، حتى كأنك تظهر للناس بأنك تريد أن يعلموا أنك تعلم من مثل الذي يعلم، وما عليك أن تهنئه بذلك وتفرده به؟! وهذا الباب من أبواب البخل وأبوابه الغامضة كثيرة.
وإذا كنت في قوم ليسوا بلغاء ولا فصحاء، فدع التطاول عليهم في البلاغة أو الفصاحة.
اعلم أن بعض شدة الحذر عون عليك فيما تحذر، وأن شدة الاتقاء تدعو إليك ما تتقي.
إن رأيت نفسك تصاغرت إليها الدنيا، ودعتك إلى الزهادة فيها على حال تعذر منها عليك، فلا يغرنك ذلك من نفسك على تلك الحال؛ فإنها ليست بزهادة، ولكنها ضجر واستحذاء، وتغير نفس عندما أعجزك من الدنيا، وغضب منك عليها مما التوى عليك منها، ولو تممت على رفضها، وأمسكت عن طلبها أوشكت أن ترى من نفسك من الضجر والجزع، أشد من ضجرك الأول بأضعاف، ولكن إذا دعتك نفسك إلى رفض الدنيا، وهي مقبلة عليك فأسرع إجابتها.
اعرف عورتك وإياك أن تعرض بأحد فيما شاركها، وإذا ذكرت من أحد خليقته، فلا تناضل عنه مناضلة المدافع عن نفسه فتتهم بمثلها، ولا تلح كل الإلحاح، وليكن ما كان منك من غير اختلاط؛ فإن الاختلاط من محققات الريب، وإذا كنت في جماعة قوم أبدا، فلا تعمن جيلا من الناس أو أمة بشتم ولا ذم؛ فإنك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك ولا تعلم، ولا تذمن مع ذلك اسما من أسماء الرجال أو النساء بأن تقول: إن هذا لقبيح من الأسماء؛ فإنك لا تدري لعل ذلك موافق لبعض جلسائك في بعض أسماء الأهلين والحرم، ولا تستصغرن من هذا شيئا فكله يجرح في القلب، وجرح اللسان أشد من جرح اليد.
اعلم أن الناس يخدعون أنفسهم بالتعريض والتوقيع بالرجال، في التماس مثالبهم ومساويهم، وكل ذلك أبين عند سامعيه من وضح الصبح، فلا تكونن من ذلك في غرور، ولا تجعلن نفسك من أهله.
إني مخبرك عن صاحب كان أعظم الناس في عيني. وكان رأس ما أعظمه عندي صغر الدنيا في عينه، كان خارجا من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد. وكان خارجا من سلطان فرجه، فلا يدعو إليه مؤنة، ولا يستخف له رأيا ولا بدنا. وكان خارجا من سلطان الجهالة، فلا يقدم إلا على ثقة أو منفعة. وكان أكثر دهره صامتا، فإذا قال بذ القائلين كان يرى مستضعفا، فإذا جاء الجد فهو الليث عاديا. وكان لا يدخل في دعوى ولا يشرك في مراء، ولا يدلي بحجة حتى يجد قاضيا عدلا وشهودا عدولا. وكان لا يلوم أحدا على ما قد يكون العذر في مثله، حتى يعلم ما اعتذاره. وكان لا يشكو وجعا إلا إلى من يرجو عنده البرء ولا يصحب إلا من يرجو عنده النصيحة لهما جميعا. وكان لا يتبرم، ولا يتسخط، ولا يتشهى، ولا يتشكى، ولا ينتقم من الوالي، ولا يغفل عن العدو، ولا يخص نفسه دون إخوانه بشيء من اهتمامه بحيلته وقوته، فعليك بهذه الأخلاق إن أطقت ولن تطيق، ولكن أخذ القليل خير من ترك الجميع، وبالله التوفيق.
Неизвестная страница