قد حكمت بسجن الأشباح، وهي سجون الأرواح، فامنن على ما شئت منهما بالسراح، فالحبس نزاع الأرواح، والعقلة أخت القتلة، وكلاهما فقد، ومهر للخطوب ونقد، وإنما بينهما نفس متصاعد، وأجل متباعد، فألحق منهما ما أجلت بما عجلت، وقد أخرنا الدين، إلى يوم الدين.
ومن منثور كلامه في «أبكار الأفكار»:
لما فني عمر الأمس، وطفئ سراج الشمس، لاحت بروق الثغور اللوامع، وجلجلت رعود الأوتار في المسامع، وبعث مخارق وابن جامع، فلم يزل ذلك دأبنا، ما أقلع سحابنا، حتى مسأنا هجعة، وكلنا نقول بالرجعة.
وله في القرابة: الوجيه بين أقاربه، كالوادي بين مذانبه، تجذبن ماءه وتطلبن ظماءه.
وفي العداوة: كم قاطعك من راضعك، وقابحك من مالحك، ونافقك من وافقك، وناصبك من صاحبك، وحادك من وادك.
في أنواع شتى: الجود أنصر من الجنود، من بخل بماله، سمح بعرض آله، الباذل كثير العاذل، الكريم كثير الغريم، احذر الكريم إذا افتقر، واللئيم إذا اقتدر، احذر التقي إذا أنكر، والذكي إذا فكر، المطل أحد المنعين واليأس أحد الصنعين، العشق أحد الرقين، والسلو أحد العتقين، رفث الكلام أحد السفاحين، وموالاة القبل أحد النكاحين، جميل الرد أحد الجودين، وبقاء الذكر أحد الخلودين، طول الجمود أحد القبرين، وبقاء الثناء أحد العمرين، بئس النصير التقصير، المتحاسر خاسر، من كثر فجره، وجب هجره، من كرمت خصاله، وجب وصاله، سحابة صيف، وزيارة ضيف، الوسيلة جناح النجاح، رب عين إذا رأت زنت، لا كرم بمن حرم، المستلم أحزم من المتسلم.
هذا ما قصدنا إيراده هنا على أن ما جمعناه من كلام هذا الأديب البارع، هو أطول من ذلك، وقد لاقينا صعوبات جمة في نظم ما تشتت؛ إذ لا يوجد تأليف يحوي تراجم فضلاء القطر التونسي - والله المسئول الإعانة (ح.ح.ع).
رب أعن برحمتك
قال أبو عبد الله محمد بن شرف القيرواني هذه أحاديث صنعتها مختلفة الأنواع، مؤتلفة في الأسماع، عربيات المواشم، غريبات التراجم، واختلقت فيها أخبارا فصيحات الكلام، بديعات النظام، لها مقاصد ظراف، وأسانيد طراف، يروق الصغير معناها، والكبير مغزاها، وعزوتها إلى أبي الريان الصلت بن السكن من سلامان. وكان شيخا هما في اللسان، وبدرا تما في البيان، قد بقي أحقابا، ولقي أعقابا، ثم ألقته إلينا من باديته الأزمات، وأوردته علينا العزمات، فامتحنا من علمه بحرا جاريا، وقدحنا من فهمه زندا واريا، وأدرنا من بره طرفا، واجتنينا من ثمره طرفا، ونحن إذ ذاك والشباب مقتبل، وغفلة الزمان تهتبل، واحتذيت فيما ذهبت إليه، ووقع تعريضي عليه من بث هذه الأحاديث، ما رأيت الأوائل قد وضعته في كتاب كليلة ودمنة، فأضافوا حكمه إلى الطير الحوائم، ونطقوا به على ألسنة الوحش والبهائم، لتتعلق به شهوات الأحداث، وتستعذب بسمره ألفاظ الحداث.
وقد تحابذ النحو سهل بن هارون الكاتب في تأليفه كتاب النمر والثعلب، وهو مشهور الحكايات، بديع المراسلات، مليح المكاتبات، وزور أيضا بديع الزمان الحافظ الهمذاني، وهو الأستاذ أبو الفضل أحمد بن الحسين؛ مقامات كان ينشئها بديها في أواخر مجالسه، وينسبها إلى راوية رواها له يسميه عيسى بن هشام، وزعم أنه حدثه بها عن بليغ يسميه أبا الفتح الإسكندري، وعددها - فيما يزعم رواتها - عشرون مقامة إلا أنها لم تصل هذه العدة إلينا، وهي متضمنة معاني مختلفة، ومبنية على معان شتى غير مؤتلفة، لينتفع بها من الكتاب والمحاضرين من صرفها من هزل إلى جد، ومن ند إلى ضد، فاقت من هذا النحو عشرين حديثا، أرجو أن يتبين فضلها، ولا تقصر عما قبلها.
Неизвестная страница