دخلت المنزل وحاولت أن أصعد مباشرة إلى الطابق العلوي، لكن أمي نادتني. دلفت إلى الردهة الأمامية، حيث لم أشعل الضوء. لا بد وأنها اشتمت رائحتي على الفور لأنها هرعت إلى الأمام مطلقة صرخة اندهاش تام، كما لو أنها رأت شخصا يسقط، وأمسكتني من كتفي حيث كنت سأسقط بالفعل من فوق درابزين الدرج، وأنا يغمرني الشعور بتعاسة حظي العجيبة، وأخبرتها بكل شيء من البداية ، دون أن أغفل ذكر اسم مارتن كولينجوود ومحاولة انتحاري غير الجدية بالأسبيرين، والتي كانت خطأ.
في صباح يوم الإثنين استقلت أمي الحافلة المتجهة إلى بايلي فيل، وسألت عن متجر خمور وابتاعت لي زجاجة من الويسكي الاسكتلندي، ثم اضطرت إلى انتظار حافلة تعيدها إلى المنزل، والتقت ببعض الناس الذين تعرفهم ولم تكن قادرة تماما على إخفاء الزجاجة في حقيبتها؛ شعرت بالحنق من نفسها لأنها لم تحضر حقيبة تسوق ملائمة. وبمجرد أن عادت، ذهبت إلى منزل آل بيريمان؛ لم تتناول وجبة الغداء حتى. لم يكن السيد بيريمان قد عاد إلى المصنع. دخلت أمي وتحدثت مع كليهما وتركت انطباعا ممتازا لديهما، ثم أقلها السيد بيريمان إلى المنزل بسيارته. تحدثت معهما بأسلوبها الهادئ والصريح، والذي دائما ما كان يثير الدهشة على نحو مستحب لدى أشخاص مهيئين للتعامل مع أم، كما أخبرتهما أنه رغم أنني فيما يبدو أبلي بلاء حسنا في المدرسة، فقد كنت متأخرة للغاية - أو ربما غريبة الأطوار - في تطوري العاطفي. تصورت أن هذا التحليل لسلوكي كان فعالا على نحو استثنائي للسيدة بيريمان، التي كانت قارئة نهمة لكتب توجيه الأطفال. توطدت العلاقة بين أمي وآل بيريمان إلى الحد الذي جعلها تثير مثالا محددا للصعوبات التي أمر بها، فروت على نحو استرضائي قصة مارتن كولينجوود كاملة.
في غضون بضعة أيام انتشر خبر أنني حاولت الانتحار حزنا على مارتن كولينجوود في أرجاء البلدة والمدرسة، وانتشرت بالفعل كذلك قصة حضور السيد بيريمان وزوجته إلى المنزل ليلة سبت، وأنهما وجداني ثملة ومترنحة، ولا أرتدي شيئا سوى لباسي الداخلي، في حجرة بها ثلاثة فتية، كان بيل كلاين من ضمنهم. أخبرتني أمي أنني سأسدد ثمن زجاجة الخمر التي أخذتها إلى آل بيريمان من دخلي من مجالسة الأطفال، لكن عملائي تلاشوا كما تلاشت آخر ثلوج إبريل، وما كنت سأسدد ثمنها إلى الآن لولا أن الوافدين الجدد إلى البلدة انتقلوا للسكنى قبالتنا في الشارع في شهر يوليو، واحتاجوا جليسة أطفال قبل أن يتحدثوا إلى أي أحد من جيرانهم.
قالت أمي أيضا إنها ارتكبت خطأ فادحا بالسماح لي بالخروج برفقة الفتية، وإنني لن أخرج مجددا حتى أتجاوز عامي السادس عشر بفترة طويلة. تبين أن ذلك لم يكن بمأزق حقيقي مطلقا؛ نظرا لأنه لم يطلب أحد الخروج معي طيلة تلك الفترة على الأقل. إذا خلت أن أخبار مغامرة آل بيريمان جعلت مني شخصا مطلوبا في حفلات اللهو والحفلات الماجنة التي كانت تقام في البلدة ومن حولها، فأنت مخطئ للغاية، فالشهرة الاستثنائية التي صاحبت حفلتي الماجنة الأولى ربما جعلتني أبدو موسومة بنوع خاص من سوء الحظ، مثل الفتاة التي تبين أنها حبلى على نحو غير شرعي في ثلاثة توائم؛ فلا يود أحد أن تجمعه علاقة بها. على أية حال لم يتصل أحد بي على الإطلاق، واكتسبت السمعة الأكثر إثما بالطبع في المدرسة الثانوية بأكملها. اضطررت إلى تحمل الأمر حتى فصل الخريف التالي، عندما فرت فتاة شقراء سمينة في الصف العاشر مع رجل متزوج، وشوهدت بعد شهرين وهي تعيش في الخطيئة - لكن ليس مع الرجل نفسه - في مدينة سو سانت ماري. بعد ذلك نسي الجميع قصتي.
بيد أنه كان لذلك الشأن نتيجة إيجابية، وغير متوقعة على نحو رائع؛ تغلبت تماما على مارتن كولينجوود. لم يكن الأمر فحسب أنه قال ذات مرة، على الملأ، إنه كان يعتقد دوما أنني مختلة العقل؛ فمتى أتى ذكره لم أكن أشعر بالفخر، وكان بإمكان خيالي الرقيق إيجاد سبيل للتغاضي عن ذلك قبلها بشهر أو بأسبوع. ماذا كان ذلك الذي أعادني إلى العالم مجددا؟ كان الواقع المريع والمذهل للكارثة التي حلت بي؛ كان «الطريقة التي تجري بها الأمور». لا أعني أنني استمتعت بما حدث، فقد كنت فتاة خجولة وعانيت كثيرا من تلك الفضيحة، لكن تطور الأحداث في ليلة السبت تلك هو ما أثار اهتمامي؛ شعرت أنني أدركت لمحة من العبثية السافرة والساحرة والمتشظية التي ترتجل بها الحبكات الدرامية للحياة، ولم تكن في الأدب القصصي. لم أستطع التوقف عن تأمل هذا الأمر.
وبالطبع تقدم مارتن كولينجوود في شهر يونيو من ذلك العام للقبول في الجامعة، ورحل إلى المدينة ليحضر دروة تدريبية عن دفن الموتى - كما أظن أنه اسمها - وعندما عاد عمل مع عمه في دفن الموتى. عشنا في البلدة نفسها واستطعنا معرفة معظم الأمور التي وقعت لكل منا، لكنني لا أعتقد أننا التقينا وجها لوجه أو رأى أحدنا الآخر، إلا من مسافة بعيدة، لسنوات. ذهبت إلى حفل هدايا عرس الفتاة التي تزوج منها، ولكن بعدها ذهب كل منا إلى حفلات هدايا العرس لأناس لم تجمعنا المعرفة بهم. كلا، لا أعتقد أنني رأيته فعلا مرة أخرى، حتى عدت إلى بلدتي بعد أن تزوجت بعدة سنوات لحضور جنازة أحد أقاربي. ثم رأيته، لم يكن يشبه السيد دارسي تماما، لكن كان وسيما للغاية مع ذلك في تلك الملابس السوداء. ورأيته ينظر تجاهي بتعبير يشبه ابتسامة حافلة بالذكريات في حدود ما تسمح به المناسبة؛ علمت أنه اندهش بذكرى، إما ذكرى وفائي أو كارثتي الصغيرة المدفونة. رمقته بنظرة رقيقة حائرة في المقابل. أنا امرأة يافعة الآن؛ دعه يكشف هو عن كوارثه الخاصة.
وقت الموت
بعد فترة، تمددت الأم، ليونا باري، فوق الأريكة، ملفوفة بلحاف، وأخذت النساء في وضع مزيد من الحطب في المدفأة على الرغم من أن المطبخ كان ساخنا للغاية، ولم يشعل أحد الضوء. احتست ليونا بعض الشاي ورفضت تناول أي طعام، وقالت بادئة حديثها كما يلي، بصوت أجش ومصر، لكن ليس هيستيريا بعد: لم أكد أخرج من المنزل، لم أغب عن المنزل سوى عشرين دقيقة ... (قالت آلي ماكجي في نفسها: ثلاثة أرباع الساعة على الأقل. لكنها لم تنطق بذلك؛ ليس في هذا الوقت. لكنها تذكرت ذلك؛ إذ كانت هناك ثلاثة مسلسلات يبثها المذياع تحاول الإصغاء إليها، والتي كانت تتابعها كل يوم، لكنها لم تتمكن من سماع نصفها؛ فقد كانت ليونا هناك في مطبخها تتحدث عن باتريشيا. كانت ليونا تحيك زي راعية بقر من أجل باتريشيا على ماكينة خياطة آلي، سرعت من حركة الماكينة وجذبت الخيط بشكل مباشر إلى الخارج لقطعه بدلا من أن تجذبه إلى الخلف، على الرغم من أن آلي أخبرتها بألا تفعل ذلك حتى لا تتسبب في كسر الإبرة. كان من المفترض أن ترتدي باتريشيا هذا الزي في الليلة التي ستغني بها في حفل بأعلى الوادي؛ فقد كانت تنشد الأغاني الغربية الخاصة برعاة البقر. كانت باتريشيا تغني مع فرقة ميتلاند فالي إنترتينرز التي كانت تجوب أرجاء البلاد لتقدم فقرات في الحفلات الموسيقية والراقصة، وكان يتم تقديمها في تلك الحفلات على أنها «محبوبة ميتلاند فالي الصغيرة»، و«الشقراء الصغيرة»، و«الطفلة ذات الجسم الصغير والصوت القوي». كانت تملك صوتا قويا بالفعل، مفزعا إلى حد ما لأن يخرج من طفلة ضعيفة للغاية كباتريشيا. جعلتها ليونا تغني أمام الناس عندما بلغت الثالثة من عمرها.
قالت ليونا وهي تنحني للأمام ضاغطة بقدميها على دواسة الماكينة: لا تخاف أي شيء قط، فكان من السهل عليها أن تغني أمام الناس. فتحت بلوزتها الشفافة عن غير قصد، فانكشف صدرها الهزيل، ونهداها الذابلان، بعروقهما الزرقاء الكبيرة التي تنحدر داخل القميص الداخلي الرمادي المائل للون الوردي. لا يهمها أي شيء، حتى وإن كان ملك إنجلترا نفسه يشاهدها، ستقف وتغني، وعندما تنتهي من الغناء، ستجلس، هذا كل ما يحدث فحسب. حتى إن لها اسما ملائما لمغنية، باتريشيا باري، ألا يبدو لك كاسم سمعته يذكر بالمذياع؟ هناك أمر آخر وهو شعرها الأشقر الطبيعي، يتعين علي أن أعقص شعرها كل ليلة، لكن ذلك الشعر الأشقر الطبيعي ليس من المفترض أن يتم عقصه، كما أنه لا يتغير لونه للون الداكن أبدا؛ لدينا هذا النوع من الشعر الأشقر الطبيعي في بعض أفراد عائلتنا والذي لا يصير داكنا أبدا؛ فقريبتي التي أخبرتك عنها، التي فازت بلقب ملكة جمال سانت كاثرينز لعام 1936، كانت من بين هؤلاء، وكذلك خالتي التي توفيت ...)
لم تقل آلي ماكجي أي شيء، والتقطت ليونا أنفاسها ثم قالت باندفاع: عشرون دقيقة. كان آخر شيء قلته لها أثناء خروجي من الباب هو: عليك الاعتناء بالأطفال! إنها في التاسعة من عمرها، أليس كذلك؟ سأذهب فقط إلى الجهة المقابلة من الطريق لأحيك لك هذا الزي، اعتني بالأطفال. وخرجت من الباب ونزلت الدرج ووصلت حتى نهاية الحديقة، وما إن نزعت الخطاف من البوابة، حتى أوقفني شيء ما، وحدثتني نفسي: «هناك خطب ما!» قلت في نفسي: ما الأمر؟ وقفت هناك وتطلعت خلفي إلى الحديقة، وكل ما استطعت رؤيته هو سيقان الذرة والكرنب المتجمد، واللذين تأخرنا في حصدهما هذا العام، ونظرت عبر الطريق ولم أر سوى كلب ماندي العجوز يتمدد أمام منزله، لا توجد سيارات آتية من أي اتجاه، وجميع الأفنية خالية، وكان الجو باردا حسبما أظن، ولم يكن هناك أطفال يلعبون بالخارج - وقلت في نفسي: يا إلهي! ربما اختلطت الأيام في ذهني وهذا ليس صباح يوم السبت، ربما هو يوم خاص لا أستطيع تحديده - ثم فكرت في أن كل ما في الأمر هو أن الثلوج على وشك التساقط؛ استشعرت ذلك في الهواء، وتعلمون كم يكون الجو باردا حينئذ، كانت البرك الصغيرة في الطريق قد تجمدت وتباعدت - لكن الثلوج لم تبدأ في التساقط، أليس كذلك؟ لم تتساقط الثلوج بعد - فركضت عبر الطريق، ثم توجهت نحو منزل ماكجي وصعدت الدرج الأمامي وقالت لي آلي: ليونا، ماذا بك؟ تبدين شاحبة للغاية ...
Неизвестная страница