الفصل الخامس
سعيد
وكان سعيد شابا أمويا في حوالي الثلاثين من عمره توفى والده وهو طفل فكفله جده وقضى صباه وشبابه مع جده في منزل الخليفة عثمان وكانا شديدي التعلق به.. فلما قتل عثمان كان سعيد وجده في مقدمة الناقمين لعثمان والمطالبين بدمه. فلما كانت واقعة الجمل بجوار البصرة كان هو في جملة رجال أم المؤمنين وظل جده مقيما في مكة لشيخوخته. ولما فشل جند أم المؤمنين وعادت هي إلى مكة عاد هو معها وظل عند جده ولم يخرج لواقعة صفين.
ولكنه كان يتردد إلى الكوفة وكان يسمع بقطام هذه وجمالها وقد رآها مرارا تحت الخمار فوقعت من نفسه موقعا عظيما ولكنه لم يجسر على خطبتها لأن والدها كان قبل تحكيم الحكمين من شيعة الإمام علي فكيف يزوج ابنته لأموي يطالب بدم عثمان. فلما خرج الخوارج عن طاعة الإمام علي بعد التحكيم استبشر بنيل مرامه على أنه لم يتمكن من السعي في طلبها إلا بعد مقتل والدها وأخيها. فجاء لبابة العجوز كما تقدم فاستخدمت هذه العجوز كل دهائها في إغرائه على قتل علي وتركت بقية الحيلة لقطام لعلمها أنها لا تقل عنها دهاء ومكرا.
وكان سعيد حسن الطوية قليل الاختبار وخصوصا في ما يتعلق بدهاء أولئك العجائز. وكان جميل الصورة معجبا بجماله وكان الحب قد أعمى بصيرته فلم يعد يرى غير قطام ولم يحلم إلا بالحصول عليها وهو لا يصدق أنها ترضى به. فلما جاء العجوز في تلك الليلة وخاطبها بشأنها وأظهرت ما أظهرته من التمنع ازداد رغبة فيها وبذل كل ما في وسعه من الوعود في سبيل إرضائها وبذل للعجوز كل ما يرضيها من المال والحلي فوعدته أن تسعى في ترغيبها ومضت وتركته يتقلب على جمر الانتظار.
فلما جاءه العبد يستدعيه إليها خفق قلبه وهرول مسرعا وهو يتعثر بأذياله فمر في أسواق الكوفة وهو لا يرى شيئا من الأسواق ولا ناسها لانشغال باله بما سيلاقيه من البغتة عند اجتماعه بقطام منى قلبه وغاية مرامه فكان إذا تصور رضاءها أشرق وجهه وكاد يطير فرحا. فيعترض تصوره ما آنسه من التمنع عند مخاطبته العجوز وما بدر منه من الوعد بالانتقام فتنقبض نفسه ويضطرب لهول ذلك العمل. ولكن هيامه كان يهون عليه كل عسير ويصور المحال ممكنا. فخيل له أن قطاما إذا رأت جماله وتحققت ما هو فيه من الوجد لا تلبث أن تقع في هواه وتغضي عن أمر الانتقام.
في مثل ذلك قضى سعيد طريقه وريحان يخطوا أمامه خطواته المتباعدة لطول ساقيه ويحاول الإبطاء في مسيره لئلا يسبق رفيقه فلا ينتبه إلا وقد تجاوزه فيمشي الهويناء إلى موازاته وسعيد لا يفقه لشيء من ذلك. وخرجا من المدينة فآنسا سكونا لا يسمع فيه إلا صوت الحصى إذا عثرا ببعض منها لأن الكوفة كثيرة الحصى والرمال.
1
حتى وصلا باب البستان ودخلا بين النخيل. فقال العبد أمهلني يا مولاي ريثما افتقد أهل المنزل ثم أعود إليك.
فظل سعيد يتمشى بين النخيل يتشاغل برؤية أظلالها مع ما يسمعه من نقيق الضفادع على شاطئ البحيرة وأخذ يهيئ نفسه لمقابلة قطام فأصلح عمامته ومشط شاربيه ولحيته ونفض جبته وأصلحها ولبث في انتظار العبد فأبطأ عليه فانشغل خاطره وحدثته نفسه بالاستئذان والدخول إلى الدار. وفيما هو يهم بذلك سمع حركة ومشيا وبعد هنيهة بان له نور عند الباب وسمع ريحان يناديه فهرول وقلبه يخفق وركبتاه ترتعشان رعشة الحب والبغتة. فعثرت رجله بحبل من ألياف النخيل كان مشدودا في جزع بعض النخيل حتى كاد يقع ولكنه تجاهل عن ذلك وتقدم إلى باب الدار فاستقبلته لبابة مرحبة ومشت أمامه وريحان يتقدمها بالمصباح. فدخلت به الغرفة التي كانت قطام فيها ودعته للجلوس على وسادة وجلست هي على وسادة وترك ريحان المصباح هناك وخرج.
Неизвестная страница