كانت ألفت أمثال هذا المقال، ولكنها قالت متململة: هل منعتك شيئا تشتهيه؟ - كلا يا رادوبيس. لقد وهبتني جسمك الفاتن الذي خلق عذابا للبشر، ولكن طالما طمعت في قلبك. يا له من قلب يا رادوبيس! .. إنه يقف وسط زوابع الشهوات جامدا كأنه ليس منك، ولطالما ساءلت نفسي متحيرا مغيظا، ماذا يعيبني؟ ألست رجلا بل أنا رجولة كاملة. والحقيقة أنك بدون قلب.
وازداد إنكارها له، ليست هذه المرة الأولى التي تسمع فيها هذا الكلام، ولكنه كان يقوله ساخرا أو غاضبا غضبا خفيفا .. أما في هذه الساعة المتأخرة من الليل، فإنه يتكلم بصوت متهدج ويتميز غيظا وحنقا، فما الذي أهاجه؟ وكأنها أرادت أن تستحثه فسألته: أجئت في هذه الساعة من الليل يا طاهو لتعيد على أذني هذا الحديث؟ - كلا لم أجئ من أجل هذا الحديث .. ولكنني جئت من أجل أمر خطير .. إن لم يسعفني الحب فيه، فلتسعفني حريتك التي تحرصين عليها.
فنظرت إليه في اهتمام شديد، وانتظرت أن يتكلم، وبلغ به الضيق أشده، فعزم على أن يخلص إلى غرضه بلا لف ولا دوران، فقال لها بهدوء وحزم وهو يصوب عينيه إلى عينيها: ينبغي أن تهجري قصر بيجة، وأن تفري من الجزيرة فرارا في أقرب وقت .. قبل أن ينبلج الصباح.
فارتاعت المرأة لقوله، ونظرت إليه بعينين لا تصدقانه وسألته: ما هذا الذي تقوله يا طاهو؟ - أقول إنه ينبغي أن تختفي .. أو تفقدي حريتك. - وماذا يهدد حريتي في بيجة؟
فأصر على أسنانه، وسألها بدوره: ألم تفقدي شيئا ثمينا؟
فقالت داهشة: بلا. فقدت فردة صندلي الذهبي الذي أهديتنيه. - كيف؟ - خطفه النسر وأنا أستحم في بركة الحديقة .. ولكني لا أدري أي علاقة توجد بين حريتي المهددة وصندلي المفقود؟ - مهلا يا رادوبيس .. لقد خطفه النسر حقا، ولكن ألا تدرين أين سقط؟
وجدته يتكلم بلهجة العارف، فاستولى عليها العجب وتمتمت قائلة: من أين لي بهذا يا طاهو؟
فتنهد قائلا: سقط في حجر فرعون.
وقرعت هذه الكلمة أذنيها في هالة من دوي هائل، وملأ حواسها جميعا، وأذهلها عن كل شيء، فنظرت إلى طاهو بعينين حائرتين، ولم تستطيع أن تخرج عن صمتها، وكان القائد يتفرس بعينين قلقتين مرتابتين، ويتساءل: ترى ما وقع الخبر في نفسها؟ وما الإحساس الذي يعتلج في صدرها؟ وضاق ذرعا، فسألها بصوت خافت: ألم أكن محقا في طلبي؟
ولكنها لم ترد عليه، ولم يبد عليها أنها كانت تصغي إليه. كانت غارقة في لجج تلتطم في قلبها الحائر، فهاله جمودها، وكبرت عليه حيرتها، ورأى في ذلك آية نفر منها قلبه، فذهب صبره، واستنفره الغضب، فغشى بصره، وصاح بها بصوت أجش شديد: في أي واد تتيهين يا هذه؟ .. ألم يفزعك هذا الخبر الهائل؟
Неизвестная страница