فضربت عنه صفحا، وأرادت أن تسترسل في حديثها، ولكن لاحت منها التفاتة إلى التاجر عانن، فرأته كالنائم، وكان منفردا بعيدا عن الجماعات، فتذكرت أنها أطالت المكث في حلقة آني، فانسحبت من بينهم وسارت إلى التاجر، وصرخت في وجهه: اصح. فانتبه الرجل فزعا، ولكن سرعان ما أشرق وجهه لرؤيتها، فجلست إلى جانبه وسألته: أكنت نائما؟ - بل كنت أحلم. - آه! .. فيمن؟ - في ليالي بيجة السعيدة، وكنت أسائل نفسي حيران: ترى هل أفوز اليوم بإحدى هاتيك الليالي الخالدات؟! أيمكن أن أظفر الآن بمجرد وعد!
فهزت رأسها أن لا، فجزع، وسألها بخوف وإشفاق: لمه؟ - قد تطلبك نفسي، وقد تطلب غيرك، فلم أقيدها بوعد خائن؟!
وتركته إلى جماعة أخرى كانت منهمكة في الحديث والشرب، فرحبوا بها فيما يشبه الصياح، وأحاطوا بها من كل جانب، وقال واحد منهم يدعى شامة: ألا تشتركين معنا في الحديث؟ - وفيم تتحدثون؟ - يتساءل بعضنا عما إذا كان الفنانون أهلا للتكريم الذي يحبوهم به الفراعنة والوزراء. - وهل أجمعتم على رأي؟ - نعم يا مولاتي. على أنهم لا يستحقون شيئا.
وكان شامة يتكلم بصوت مرتفع لا يبالي شيئا، فنظرت رادوبيس إلى حيث يجلس الفنانون؛ رامون حتب، وهنفر وهني، وضحكت ضحكة ساخرة ذات جرس فاتن ساحر، وقالت بصوت يبلغ آذان الفنانين: ينبغي أن يكون هذا الحديث عاما، ألا تسمعون أيها السادة ما يقال عنكم؟ .. يقال هنا إن الفن عرض تافه، وإن الفنانين غير أهل للتكريم .. فما رأيكم؟!
وعلت فم الفيلسوف الشيخ ابتسامة ساخرة، أما الفنانون فقد نظروا إلى الجماعة التي تستهين بهم نظرة متعالية، وابتسم هنفر ابتسامة هزء، أما رامون حتب فاصفر وجهه غضبا، لأنه كان شديد التأثر، وكان شامة معجبا بما يقول لأصحابه فأعاد قوله بصوت عال قائلا: إني رجل عمل وجد، أضرب الأرض بيد من حديد، فتذل وتبذل لي خيراتها من الأنعم السابغة، فأفيد ويفيد معي الآلاف من المحتاجين، كل هذا دون حاجة إلى قول موزون أو لون براق.
وأدلى كل من الرجال بدلوه، إما للتنفيس عن حقد طال حفظه أو لمجرد الثرثرة والإعلان عن النفس، فقال أحد الكبار يدعى رام: من الذي يحكم ويسوس الناس؟ .. من الذي يفتح البلدان ويغزو المعاقل؟ .. من الذي يجلب الثروة والخيرات؟ .. أناس غير الفنانين بلا ريب ..
وقال عانن وكان سريع التلبية للخمر: إن الرجال يهيمون بحب النساء، ويهذون بذكرهن في خلواتهم، أما الشعراء فيبسطون هذيانهم في كلام موزون، وإلى هنا لا يجد العاقل ما يؤاخذهم عليه إلا أنهم يضيعون وقتهم فيما لا طائل تحته، ولكن السخافة والحماقة أن يطلبوا لهذيانهم ثمنا من المجد والخلود.
وقال شامة مرة أخرى: ويكذب آخرون كذبا طويلا منظما، ويهيمون في وديان بعيدة ويستوحون الأشباح والأوهام، يزعمون أنهم رسل وحي كريم. والأطفال تكذب كذبهم، وكثير من العامة، ولكنهم لا يزعمون شيئا.
فضحكت رادوبيس طويلا، وانتقلت من مجلسها إلى قريب من هنفر، وقالت هازئة: ويحك أيها الرجل .. لماذا إذن تسير مختالا فخورا كأنك بلغت الجبال طولا؟
فابتسم المثال ابتسامة صفراء، ولكنه لازم الصمت كصاحبيه تعاليا منهم عن الرد على «المتهجمين بغير علم»، وإن انطوى كل منهم على غضب شديد، وكرهت رادوبيس أن تنتهي المعركة عند ذاك، فالتفتت إلى الفيلسوف هوف ووجهت إليه هذا السؤال: وما رأيك أنت أيها الفيلسوف في الفن والفنانين؟ - الفن لهو ولعب، والفنانون لاعبون مهرة.
Неизвестная страница