بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الفقيه القاضي الأعدل، العالم الناصر المحقِّق الأحفل، أبو العباس احمد بن عبد الرحمن بن مَضاء اللخمي، أدام الله بركته، ونوَّر بنور الإيمان خَلَده، وفسح أجله، ونفعه بالعلم الذي حمله:

1 / 61

الحمد لله على ما منَّ به من الإيمان، والعلم باللسان، الذي نزل به القرآن، والصلاة على نبيه الداعي إلى دار الرضوان، وعلى اله وصحبه والتابعين له بإحسان. وأسأل الله الرضا عن الإمام المعصوم، المهديّ المعلوم، وعن خليفتيه: سيدَيْنا أميرَي المؤمنين، الوارثَيْن مقامه العظيم. وأَصِلُ الدعاء لسيدنا أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين، مبُلْغِ مقاصدهم العليَّة إلى غاية التكميل والتَّتميم. أما بعد فإنه حملني على هذا المكتوب قولُ الرسول ﷺ: الدين النصيحة، وقوله: من قال في كتاب الله برأيه فأصاب، فقد أخطأ، وقوله: من قال في كتاب الله بغير علم فليتبوَّأ مقعده من النار، وقوله: من رأى منكم منكرًا فلْيُغَيِّره بيده، فإن لم

1 / 63

يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وعلى الناظر في هذا الكتاب من أهل هذا الشأن إن كان ممن يَحتاطُ لدينه، ويجعل العلمَ مُزْلفًا له من ربه، أنْ ينظر، فإن تبيَّن له ما نُبيَّنه رجع إليه، وشكر الله عليه، وان لم يتبين له فليتوقف توقُّف الورع عند الأشكال، وان ظهر له خلافة فليبيَّنْ ما ظهر له بقولٍ أو بكتابة. واني رأيت النحويين - رحمة الله عليهم - قد وضعوا صناعة النحو لحفظ كلام العرب من اللحن، وصيانته عن التغيير، فبلغوا من ذلك إلى الغاية التي أمُّوا، وانتهوا إلى المطلوب الذي ابتغوا، إلا أنهم التزموا ما لا يلزمهم، وتجاوزوا فيها القدر الكافي فيما أوردوه منها، فتوعَّرت مسالكُها، ووهَنَتْ مبانيها، وانحطَّت عن رُتْبَة الإقناع حججُها، حتى قال شاعر فيها: ترنو بطرفٍ ساحرٍ فاترٍ ... اضعفَ من حُجَّةِ نحويّ على أنها إذا أخذت المأخذ المبرَّأ من الفضول، المجرَّد عن المحاكاة والتخييل، كانت من أوضح العلوم برهانًا، وأرجح المعارف عند الامتحان ميزانًا، ولم تشتمل إلا على يقين أو ما قاربه من الظنون. ومثل هذا المكتوب وكتب النحويين، كمَثَل رجال، ذوي أموال، عندهم الياقوت الرائق، والزبرجد الفائق، والذهب الإبريز، والورق

1 / 64

التي برَّزت في الخلوص كل التبريز، وقد خالطها من الزجاج الذي صُفِّى حتى ظُنَّ زَبرجدًا، والنحاس الذي عولج حتى حُسِبَ عسجدًا، ما هو أبهى منظرًا، وأعظم من مرأى العين خطرًا، وأكثر عِدَّة، واجدّ جِدَّة، حتى صاروا بها ألْهَج، وظنُّوا أنهم إليها أَحْوَج، فأتاح الله لهم رجلًا ناصحًا، وناقدًا بصيرًا، فأظهروه على ما لديهم من تلك الذخائر النفيسة المونقة، فقال لهم: قال رسول الله ﷺ: الدين النصيحة، وأنا أنصحكم لا للاقتناء ولا للاكتساب، ولكن لابتغاء الأجر من الله والثواب، هذا الذي اتخذتموه عُدَّة الدهر، وظننتموه أمانًا من الفقر، بعضه مال، وبعضه لَمْعُ آل، والياقوت يُختبَر بالنار، فيزيد حُسنًا بالاختبار، والزجاج لا يثبُت للنار ولا يصبر عليها، والزبرجد يُذيب أعيُن الأفاعي إذ أُدْنِيَ إليها. وطَفِقَ يأخذ معهم في هذه الأساليب، ويأتيهم فيها باذلًا جهده، ومستنفرًا جنده، بالغرائب والأعاجيب، ليوقع لهم اليقين، بما يصدق منها لدى الابتلاء وما يمين، فبعضهم أثنى وشكر، وأْتَمَرَ لما أمر، واستبدل بما يَعُرّ ويضُرّ ما ينفع لدى اللَّزَيات ويسرّ، وبعضهم تهاون بمقاله، واستمر على حاله، فعجمهم الزمان عَجْمة، وضَغَمتهم الحوادث ضَغْمة، وأصابت مدينتهم أزمة، فمن حزم، وعمل منهم بما علم، تخلص منها تخلُّص الشهاب من الظلماء، ومن أعرض عنه، وأنف منه، هلك هلاك العَجْماء في الفَيْفاء، عند عدم الرعْي والماء.

1 / 65

وكذلك من أخذ من علم النحو ما يوصله إلى الغاية المطلوبة منه، واستعاض من تلك الظنون - التي ليست كظنون الفقه، التي نصبها الشارع ﷺ إمارةً للأحكام، ولا كظنون الطب التي جُرِّبت، وهي في الغالب نافعة، في الأمراض والآلام - العلوم الدينية، السمعيَّة منها والنظريَّة، التي هي الجُنَّة، والهادية إلى الجَنَّة، فقد نفعه الله بالتعليم، وهداه إلى صراط مستقيم. وأما من اقتصر كل الاقتصار على المعارف التي لا تدعو إلى جنة، ولا تزجر عن نار، كاللغات والأشعار، ودقائق عِلَل النحو ومسلِّيات الإخبار، فقد أساء الاختيار، واستحبَّ العمى على الإبصار: وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عندهُ الأنوارُ والظُّلَمُ ولعل قائلا يقول: أيها الأندلسي المسرور بالإجراء بالخلاء، المضاهي بنفسه الحَفِيَّ ذكاءً وأيّ ذكاء، أتزاحم بغير عَوْد وتكاثر بِرَذاذك الجَوْد:

1 / 66