كلمات مضيئة قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: ٦٥] وقال النبي ﷺ: «... عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار». حديث صحيح وقال المصنف- ﵀: «الرّادّ على أهل البدع مجاهد، حتى كان يحيى بن يحيى يقول: الذّبّ عن السّنة أفضل من الجهاد». وقال: «ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبارات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحبّ إليك، أو يتكلّم في أهل البدع؟ فقال: إذا صام وصلّى واعتكف فإنّما هو لنفسه، وإذا تكلّم في أهل البدع فإنّما هو للمسلمين، هذا أفضل». «مجموع الفتاوى» (٢٨/ ٢٣١).

1 / 5

بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدمة المحقق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ١٠٢]. يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: ١]. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: ٧٠، ٧١]. أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد؛ فإن من تمام حفظ كتاب الله وحفظ سنة رسول الله ﵌، الذب والدفاع عنهما، ودفع كل ما يشوبهما. ولقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على هذا الأساس المتين، فحفظوا وصية نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، فحموا الكتاب والسنة من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهذا بفضل التربية التي رباها إياهم النبي الكريم ﵌. ثم سار على هذا المنهج القويم من بعدهم تلاميذهم من التابعين وأئمة الدين. حتى ظهرت نابتة السوء، وبدأت رائحة المبتدعة تفوح؛ فظهر الخوارج المبتدعة الذين كفّروا عليا ﵇ وحاربوه، ثم ظهر أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الحاقد، الذي ألّب الفتن، ونشر العقائد الفاسدة الباطلة. ثم توالت الفتن، وانتشرت البدع، وكثر المتكلّمون في دين الله بالباطل، كالجهمية الذين عطّلوا الصفات، والمتكلّمين الذين حرّفوا نصوص رب العالمين،

1 / 6

والفلاسفة المهوّسين، والمعتزلة والأشاعرة والمرجئة، وغيرهم من أصحاب المقالات المخالفة لهدي رسول رب العالمين. لكن مع هذا الشرّ المستطير؛ لم يندثر علماء أهل السنة والجماعة، علماء الطائفة المنصورة والفرقة الناجية؛ أهل الحديث والأثر، بل إنهم لكل هؤلاء كانوا بالمرصاد، فقابلوا الباطل بالحق، والجهل بالعلم، والبدعة بالسنة، والكذب بالصدق، والادّعاء بالحجة، وجرّدوا أهل الفتنة والبدعة من سلاحهم، وجاهدوهم بسلاح البيان والعلم، فناظروهم وناقشوهم، وألّفوا الردود على بدعهم وباطلهم، وأظهروا الحق والمحجة الواضحة. وكان من بين أولئك الأئمة العلماء الثقات الأمناء؛ شيخ الإسلام نادرة زمانه، المجدد أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني- ﵀. فقد «قضى جلّ حياته في جهاد أهل الباطل والبدع؛ ببيانه الواضح، وقلمه السيّال، وإمكاناته العقلية الهائلة، وشجاعته النادرة، فأنتج كل ذلك هذه الثروة العظيمة من المؤلفات التي أعلى الله بها منار الحق، ودفع بها الباطل. وكان يركّز في أكثرها على أولئك المبتدعة- من صوفية وأشعرية- والذين يصرّون على الانتساب إلى أهل السنة والجماعة، ذلك الأسلوب الذي خدعوا به الأمة الإسلامية، فأوقعوا أجيالا منهم في أحضان البدع والخرافات المشينة ... لقد كانت كتابات وجهاد ومؤلفات شيخ الإسلام تركّز على فكر ومناهج وعقائد تلك الطوائف المعتزية إلى السنة والجماعة- وهي بعيدة عنها-؛ فألّف في هذا الميدان الكثير والكثير؛ مثل: «در تعارض العقل والنقل» و«بيان تلبيس الجهمية» وجانب كبير من فتاواه، وجانب كبير من كتابه «منهاج السنة» الذي ألّفه ردا على الروافض، ومثل «الحموية» و«الواسطية» و«التدمرية» و«التوسل والوسيلة» و«الرد على البكري» و«الرد على الأخنائي»، وغير هذه؛ مما صبّه حمما على هذه الأصناف الخطيرة ...» «١». ولا شك أن الردّ على المخالفين من المبتدعة وأهل الأهواء؛ فيه حماية للشريعة الغراء، وهو من أصول الاعتقاد، واتباع سير الأسلاف، وفيه قمع للمعاندين والمنافقين، وشدّ أزر الموحّدين، وإعلاء لمنهج سيد الأنبياء والمرسلين «٢». _________ (١) من كلام العلامة السّلفي حامل لواء الجرح والتعديل؛ ربيع بن هادي المدخلي- سلّمه الله- في كتابه الماتع: «منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف» ص ١٠٢ - ١٠٣. بتصرف يسير. (٢) ومن أراد الوقوف على أهمية الرد على أهل الأهواء فلينظر «الرد على المخالف من أصول الإسلام» للشيخ بكر أبو زيد.

1 / 7

وهذا الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم، هو ثمرة أحد هذه الجهود المباركة، التي قام بها شيخ الإسلام، فقد قام فيه بالرد على قاضي المالكية؛ محمد بن أبي بكر الأخنائي «١»، في مسألة زيارة قبر النبي ﵌، والتفريق في ذلك بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية. وهذه المسألة من المسائل الخطيرة والحسّاسة التي كثر فيها الكلام، وطال حولها النقاش، فمن متّبع لهدي النبيّين والسّلف الصالحين، ومن متّبع لطرق الغاوين المبتدعين، وسبل الشياطين. ولا شك أن مثل هذه المسائل محلّها التشريع، ونحن نؤمن ونعتقد أن النبي ﵌، بيّن لنا الحقّ في هذه المسألة، لأنه ﵌ مات ولم يترك لنا خيرا إلا دلّنا وأرشدنا عليه، وما من شر إلا وحذّر أمته منه. والمصنف ﵀ قد بيّن بالأدلة الشرعية؛ من القرآن والسنة الصحيحة، وأقوال العلماء الثقات؛ الهدي الصحيح، والقول الحق المبين في هذه المسألة المهمة. واعلم- رحمني الله وإياك- أيها المسلم؛ أنه قد صنّف في هذه المسألة كتب ومصنفات كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر: ١ - «زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور» للمصنف، وهي موجودة في «مجموع الفتاوى». ٢ - «شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور» تأليف مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي، نشر بمكتبة الباز بمكة المكرمة. ٣ - «الصارم المنكي في الرد على السبكي» لابن عبد الهادي، نشر بمؤسسة الريان ببيروت. ٤ - «تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد» لمحدث العصر العلامة محمد ناصر الدين الألباني ﵀. ٥ - «تنبيه زائر المدينة إلى الممنوع والمشروع في الزيارة» للعلامة صالح بن غانم السدلان- حفظه الله تعالى- نشر بدار بلنسية بالرياض. ٦ - «أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة» للعلامة المحدث أحمد بن يحيى النجمي- حفظه الله ورعاه- نشر بمكتبة الغرباء الأثرية بالمدينة النبوية. وغيرها كثير. _________ (١) ترجمته في «الأعلام» (٦/ ٥٦).

1 / 8

منهجي في تحقيق الكتاب: ١ - تخريج الآيات القرآنية. ٢ - تخريج الأحاديث النبوية وبيان درجتها. ٣ - ضبط النص؛ بالرجوع إلى المصادر قدر الإمكان، مع العلم أن هذه الطبعة ضبطها من طبعة العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلّمي- ﵀ ولم أتمكن من الحصول على مخطوط للكتاب، وقد بذلت ما بقدرتي في ضبط النص، وقد أثبت تعليقات العلامة المعلمي في الهامش. ٤ - ترجمت لبعض الأعلام الواردة، وعرّفت ببعض الفرق باختصار. ٥ - صنعت فهارس علمية للكتاب. ملاحظة: لم أصنع ترجمة للمصنف- ﵀ لسببين اثنين: الأول: شهرته الكبيرة بين الخاصة والعامة. ثانيا: كثرة من ترجم له سواء في مقدمات كتبه المحققة، أو بتراجم مستقلة. وقد أخبرت أن الشيخ بكر أبو زيد ألف في ترجمته وسيرته ترجمة موسّعة على نسق الترجمة التي كتبها لابن القيم- ﵀، لكن لم أوفّق للحصول عليها حتى الآن، فاللهم يسّر لي ذلك. هذا؛ وأسأل الله العليّ العظيم أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وأسأله حسن القبول، كما أسأله أن يوفقني لخدمة هذا الدين، وأن يثبتنا على الحق والصراط المستقيم. اللهم اغفر لي ولوالديّ ولجميع المسلمين، اللهم تجاوز عن سيئاتنا وتقبّل أعمالنا، واهدنا يا أرحم الراحمين، واجمع كلمة المسلمين على الحق والدين. اللهم صلّ على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما مزيدا. كتبه: أبو عبد الله العاملي السّلفي الداني بن منير آل زهوي- كان الله له- الجية؛ منطقة جبل لبنان العاشر من رمضان المبارك لعام إحدى وعشرين وأربعمائة وألف

1 / 9