فقال الرجل: سننتظر حتى الفجر.
وأشار إلى الرجلين الممسكين بي إشارة خاصة ... فشرعا يضعان القيد الحديدي في يدي غير مبالين باحتجاجي، ولم أصدق المصير الذي انزلقت إليه ... كيف يبدأ بمعجزة باهرة وينتهي بمثل هذه الوكسة؟! لم أصدق ولم أستسلم لليأس ... أجل إني أنغمس في محنة حتى قمة رأسي، ولكن الرؤيا لم تتجل لمحض العبث، علي أن أعترف بخطئي الصبياني، وعلي أن أعيد النظر، وعلي أن أناجي الوقت.
وشملنا صمت ثقيل، تذكرت أخي وأختي في الدار الجديدة، والحفرة الفاغرة في الدار القديمة، وتراءى لي الموقف من خارجه، ففرت مني ضحكة، ولكن لم يلتفت لي أحد، ولا خرج من الصمت.
الليلة المباركة
ما هي إلا حجرة وحيدة يتوسطها البار والرف المزين بالقوارير في عطفة نوري المتواضعة، والمتفرعة عن «كلوت بك»، اسمها «الزهرة»، ولكن يعشقها لحد الوله الشيوخ المدمنون، وخمارها طاعن في السن، متماد في الهدوء، مؤثر للصمت، غير أنه يشع مودة وأنسا، وبخلاف الحانات تهيم في سكينة رائعة، وكان روادها يتناجون في الباطن ويتحاورون بالنظرات، وفي الليلة المباركة خرج الخمار عن صمته التقليدي، وقال: حلمت أمس بأن هدية ستهدى إلى صاحب الحظ السعيد.
فشدا قلب «صفوان» بنغمة مصحوبة بعزف عود خفي ... فتدفقت موجات الخمر في أرجائه كالكهرباء، فهنأ نفسه قائلا: «مباركة الليلة المباركة» ... وغادر الخمار ثملا يترنح، غائصا في الليل الجليل تحت سماء خريف لم يخل من وميض نجوم، مضى نحو «شارع النزهة» مخترقا الميدان متألقا بنشوة لم يعتورها أدنى خمول، بدا الشارع خاشعا تحت ستار الظلام عدا أضواء المصابيح الرسمية المتباعدة، بعد أن أغلقت الحوانيت أبوابها وركنت المساكن للنوم، ووقف أمام بيته ... وهو الرابع إلى اليمين ذو الرقم 42، من دور واحد، يتقدمه فناء قديم لم تبق من حديقته إلا نخلة فارعة، وعجب للظلام الكثيف الذي يحتويه، وتساءل لم لم تضئ زوجته مصباح الباب الخارجي كالعادة؟! وخيل إليه أن شبح البيت يتبدى في صورة جديدة، جهمة غليظة موحشة، وأن رائحة تفوح منه كالشيخوخة ... ورفع صوته هاتفا: يا هوه!
فاستوى أمام عينيه وراء السور شبح رجل يسعل، ثم يتساءل: من أنت، وماذا تريد؟
فذهل صفوان لوجود الغريب وسأله بحدة: من أنت؟ ... وماذا أدخلك بيتي؟!
فقال الرجل بخشونة وغضب: بيتك؟ - من أنت؟ - أنا خفير الأوقاف. - لكن هذا بيتي.
فصاح الرجل ساخرا: هذا بيت مهجور من قديم، تجنبه الناس لما يشاع عنه من أنه مسكون بالعفاريت.
Неизвестная страница