ومن سنين يسيرة كنت ترى جميع هذه «الشاكينات» ملففات في الملاء، أما الآن فترى كل ملاءة قد انحسرت عن فستان أو شبه فستان!
وقلت لك: إن هذه المصايف لا تجشم الرواد شيئا، فالرجل هي المركب في الغدو والرواح، والمرتع ظهر «الكوبري» فإذا أتحفت «الشكينة» من الحلوى بما يساوي «تعريفة»، فحبذا الهدية الثمينة والتحفة الطريفة!
وأخيرا فإنني لا أحب أن أنصرف عن هذه الخواطر العجلى دون أن أثبت ملاحظة، أو على الأصح دون أن أدل على ظاهرة طبيعية اختص الصيف بها مصر دون سائر بلاد الله.
هذه الظاهرة العجيبة أن هناك اتفاقا وثيقا لا شك أنه أوثق من اتفاق دولتي المحور، بل إنه لأشد وثاقة من الاتفاق بين إنجلترا وفرنسا القائم في هذه الأيام، وهذا الاتفاق الوثيق المتين معقود بين الطبيعة و«وابورات» الثلج في مصر، ومقتضاه أنه بمجرد ارتفاع درجة الحرارة إلى الحد المرهق تنكسر «وابورات» الثلج من تلقاء نفسها كسرا لا يجبره إلا اعتدال الجو وابتراد الهواء، وبرغم أصحاب تلك «الوابورات» وبرغم الثلاجين المساكين يرتفع ثمن «اللوح» إلى العشرين والثلاثين والأربعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أصدقت الآن أن هذا الاتفاق أوثق خمسين مرة من الاتفاق بين من ذكرنا من الدول!
وحاشا أن يبلغ اتفاق الساسة مهما كانوا من الأبرار، اتفاقا تعقده الطبيعة وتبرمه الأقدار!
في التليفون
لقد أدركنا من صدر نشأتنا جمعيات كانت هنا وهناك من أحياء القاهرة وغيرها من المدن الكبرى، وهذه الجمعيات كان يغشاها كل من يشاء، إذ تلقى فيها الخطب وتعقد المناظرات، يتولى أطرافها في الغالب متقدمو الطلاب، وحديثو العهد بالتخرج من المعاهد والمدارس.
ولعل أهم الأغراض من قيام تلك الجمعيات، إذا لم أقل غرضها الفذ، إنما كان التمرين في الخطابة، وتعويد الألسن الانطلاق في المجامع والمحافل، فكنت تسمع المحاضرة في منافع الهواء، وفي مزايا الشمس وفي فضل الماء على الخليقة مثلا، كما تسمع المناظرة في المفاضلة بين السمك واللبن، ولا تنس «فيض المنن في تفضيل السمك على اللبن»، والموازنة بين القطار والتلغراف «السلك والوابور».
وأرجو أن تصدقني إذا زعمت لك أنه كانت تعقد المناظرات أيضا في المفاضلة بين العلم والجهل، على أنه كان يتقدم للكلام في تفضيل الجهل على العلم من يظن أنه أنطق المتناظرين لسانا، وأطلقهما بيانا وأسطاهما قولا وأحضرهما حجة، حتى إذا ما ظهر على خصمه، وأدحض على فضل العلم دليله، كان ذلك دليلا على فضله هو وسبقه في حلبة البيان! وما ضر ما دام الغرض التمرين في الخطابة، وشحذ ملكة الجدل والتماس وجوه الأدلة على صحة الرأي واقعا حيث وقع من الصواب والسداد، أو من البطلان والفساد؟
Неизвестная страница