وانتهت المكاتبة إلى القسم المختص، ولكنه بعد البحث والتفتيش الأسابيع أو الأشهر ذات العدد، لم يهتد إلى السبب أيضا، فجعل يراجع الأقسام الأخرى التي يقدر فيها علما بالخبر واحدا بعد واحد، فلم تهتد هي الأخرى إلى شيء أبدا!
وأخيرا، وأخيرا جدا، تنبه أحد الموظفين إلى أن دكانا من دكاكين وقف المكاتب والمدارس في العتبة الخضراء كان يقوم في شأنه نزاع بين الديوان وبين المستأجر، وهو من رعايا إحدى الدول الأجنبية.
وهنا جد القسم في الطلب، وأنشأ يقص الأثر أعني أثر الورق، حتى انتهى إلى أن ذلك النزاع رفع إلى المحكمة المختلطة وموضوعه تأخر المستأجر عن أداء الكراء، وبعد الحكم ابتدائيا عليه بأداء المتخلف والإخلاء، رئي أن الرجل قد يبعد أجل التسليم بإطالة مدة النزاع، ولا يعرف له مال يرجع عليه، وهو لم يدع في الدكان إلا بضعة كراسي ونضدا - ترابيزة - من القش، وكل ذلك لا يقوم بأجر أسبوع واحد من أجر هذا الدكان، فرأى قسم القضايا، اقتضابا لهذه الخسائر أن يصالح هذا المستأجر على تسلم الدكان، أما المتأخر من الكراء فالعوض فيه على الله!
المفتاح في الدسييه
ولما اهتدي أخيرا إلى حضرة المحامي الذي تولى الصلح عن الديوان، وسئل كتابة عن مفتاح الدكان، وقع «أشر» على الورق - رحمة الله عليه: «المفتاح في الدسييه.» وكذلك تهيأ فتح الدكان، بعدما أصدأ غلقه طول الزمان!
على طرف وقفه
على أن الرواية لم تتم فصولا، فإنه لم تمض بضعة أسابيع على هذا الكشف الأثري الخطير «المفتاح في الدسييه» حتى رفعت إلى المجلس الأعلى مذكرة توج جبينها بهذا العنوان: «أطلب رفع مبلغ ... على طرف وقفه» وهذا تعبير مصطلح عليه، كلما عرض ما يدعو إلى التجاوز عن قدر من المال عجز الديوان عن تحصيله لإفلاس أو هرب أو نحو ذلك.
أتدرون يا سادتي القراء ما مقدار هذا المبلغ الذي رفع على طرف وقفه في هذه القصة الطريقة؟ إنه لا يزيد على بضع عشرات وأربعمائة وألف جنيه فقط لا غير!
ولقد كان هناك إلى وقت قريب، تقليد مأثور، مقدس مرعي عند الكثرة من موظفي الحكومة، وهذا التقليد المقدس هو «ركن» الورق في الأدراج قبل إنجازه والنظر فيه، وهذا «الركن» تتفاوت مدته بتفاوت العوامل التي تضطر الموظف إلى استخراجه وتحريكه، فإذا ما بادر أحد الموظفين بإنجاز ما بين يديه من غير قوة مرغمة قاهرة، اتهم من هذه الكثرة بالغفلة، وعد «غشيما» حينا، ومجازفا أحيانا!
وبسبب تعطل مصالح الناس، بحكم هذا الحال، وضياع المنافع عليهم في بعض الظروف، نجمت في مصر مهنة لا أحسبها معروفة لأية أمة من أمم العالم، وكانت تدر على محترفيها المال بقدر غير يسير.
Неизвестная страница