صلى الله عليه وسلم ؛ بطريق الرواية عن الثقات من التابعين أو تابعيهم، ثم عن الصحابة راويا بعد راو إلى من سمع منهم بأذنه أو رأى بعينه «ففعل النبي
صلى الله عليه وسلم
وإشارته كذلك من السنة.»
ولقد أفنى جامعو الحديث أعمارهم في شدة التحري والتحقيق والتثبت والتأكيد، للتمييز بين صحاح الأحاديث وموضوعاتها؛ بل للتمييز بين الصحاح وتبيين حظ كل منها من القوة طوعا لحظ رواتها من الثقة والدراية، ثم كان من أثر هذا أن نشأ علم جديد، هو علم «مصطلح الحديث» ولعله كان من الخير أن يدعى علم «نقد الحديث».
وفي الوقت نفسه اجتهد آخرون في استنباط الأحكام الشرعية من هذه الأصول الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس؛ مهتدين جميعا بسلامة الفطرة، وحدة الفطنة، وصحة التفكير، ودقة الإحساس، حتى لقد ارتجلوا - في هذا الباب - قواعد وقضايا تخلب باختصارها ووضوحها ودقتها أبرع المشرعين، ولأسيق طائفة منها على جهة التمثيل: الضرورة تقدر بقدرها - الأصل بقاء ما كان على ما كان - إن كنت ناقلا فالصحة، وإن كنت مدعيا فالدليل - ما جاء على أصله لا يسأل عن علته - لا اجتهاد مع النص - الاعتراف حجة قاصرة - اليد دليل الملك - المعروف عرفا كالمشروط شرطا - ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ... إلخ.
ولعمري لم يكن كل هذا الإبداع والابتكار أثرا لدرس مدرس أو تقليب للفكر في كتاب مكتوب، إن هو كما قلنا من فضل سلامة الفطر، وحدة الذكاء وصحة التفكير.
وإذا كان علماء العرب قد نقلوا بعد ذلك علم المنطق إلى لغتهم عن اليونانية، فإنهم سرعان ما أجالوا في قضاياه هذه الأذهان الحادة وأراقوا عليها تلك الأفكار الخصبة، فابتكروا ما ابتكروا، واستحدثوا ما شاء الله أن يستحدثوا، طلبا لوفاء هذا العلم على الغاية من الهداية إلى صحة التفكير، وابتغاء النتائج الحق من صحاح المقدمات.
ثم لم يكفهم هذا، فلقد نقلوا عن اليونانية أيضا علم «آداب البحث والمناظرة» وغاية هذا العلم تنظيم وسائل المجادلة بين المتجادلين، والتزام كل من الطرفين حدة في الخصام، وبيان الطرف للإدلاء بحجته، أو إدحاض حجة خصمه وكذلك تضحي المناظرة مجدية منتجة، تظهر الحق على الباطل بقيام الحجة الواضحة غير مضيعة بين سفسطة ومهاترة، أو نقل لموضوع النزاع، على أن العرب كذلك قد طبعوه بطابعهم، وأفاضوا عليه من سابغ تفكيرهم، ووصلوه بفنونهم، وأجروا فيه الأمثلة والشواهد مما يعرض لما يعالجون من العلوم.
أما وقد عرضنا للقضايا المسلمة، وللمنطق، ولآداب البحث والمناظرة، فقد حق علينا أن نقف وقفة قصيرة لعلنا نرفه بها عن القارئ بعض الترفيه.
لا غرو علي إذا زعمت أن تسعين في المائة، إن لم أقل تسعة وتسعين في المائة، من المناقشات والمجادلات التي تدور بيننا، نحن المصريين، سواء أكانت باللسان في المجالس الخاصة، أم بالقلم في الصحف السيارة، لا يمكن أن تنتهي بالتسليم من أحد المتحاورين، ذلك بأننا - حتى الكثير من متعلمينا - قل أن يعنوا في جدلهم بترتيب المقدمات المنطقية الترتيب الذي يفضي بها في صحيح القياس إلى النتائج الصحيحة، ولقد يدفعنا الحافز للنفس، والرغبة في الفلج والخصم إلى تنكر القضايا المسلمة، أما نقل موضوع النزاع إذا سطت بنا حجة الخصم، فهذا ما يقع عندنا بغير حساب!
Неизвестная страница