وإذا القوم لا يقاتلون، ولا يجمعون نية على النضج عن الوطن، ولا الذياد عن الحريم، بل إنهم ليسلمون ويسألون صفحا كريما من مالك كريم، فسرعان ما يسجح ويعفو، ويهيب بالمغلوبين المقضي عليهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء!»
ولقد عرفت أن هذا البطل الأعظم هو محمد
صلى الله عليه وسلم ، وبجل وعظم، وشرف وكرم، وأما عدوه القاتل لدعوته، الصارف بكل حوله من دينه، فشعب قريش كله، وأنت خبير مما لهذا الشعب من قوة وبأس، ومن أنفة وحفاظ.
وبعد، فإن من ينظر إلى تلك البداية، ثم يثب ذهنه إلى هذه النهاية، ليكاد تتفرق نفسه من الحيرة، وتطير من العجب كل مطير.
ولكنه الصبر! الصبر الذي يغذوه الإيمان بالحق، وما دام الإيمان بالحق قويا، فقد هان لقاء أشد الشدائد ومعاناة أهول الأهوال، ولا تزال هذه الشدائد في قتالها للحق والصبر، تضعف وتتضاءل على الزمن رويدا رويدا، حتى تلقي السلاح وتسلم أمرها لعدوها وأنفها في الرغام!
ومما يسترعي الانتباه أن الكتاب العزيز لم يحض على خلة قدر ما حض على الصبر، فلقد دارت هذه السمة ومشتقاتها فيه أكثر من مائة مرة، وهذه سيرة محمد
صلى الله عليه وسلم ، خير مصداق لما يدعو إليه القرآن العظيم.
وبعد، فليت هؤلاء الذين غصب عليهم حقهم، والذين خرجوا أو أخرجوا ظلما من ديارهم، ليتهم يبنون أنفسهم على الصبر، ويروضونها على شدة الاحتمال في سبيل الحق، ففي حديث الهجرة أصدق الخبر، وفيه أحسن العظات وأبلغ العبر.
خواطر تلهمها ذكرى الهجرة
ليس ما يضرب فيه القلم اليوم بحثا قامت في الذهن حدوده، وبانت طرقه، واتضحت معالمه، واستشرقت مقدماته لنتائجه، إن هي إلا خواطر تجول بها ذكرى الهجرة الشريفة، هي خواطر تتوالى على النفس كما توالى مناظر الخيالة - السينما - في جريدة الأخبار مثلا، على أنها قد تجيء بحكم تداعي المعاني، وبحكم أضعف المناسبات وأدنى الملابسات.
Неизвестная страница