حقا، لقد نجد بين هذه الجموع الكثيفة التي تتدفق على أوروبا في كل عام من تبعثه تجارته، ومن تستدرجه الرغبة إلى تحسين صناعته، ومن قد أثقلته العلة حتى تحير فيها طب الأطباء في هذه البلاد، فلم يجدوا بدا من الإشارة على العليل بالشخوص إلى الغرب، حيث الطبيب الاختصاصي العالمي أو حيث الينبوع الذي عقد الشفاء بمائه ونحو ذلك، ولكن قل لي بعيشك: كم عدة جميع هؤلاء وأولئك من النازحين إلى الغرب في كل عام! عشرة! عشرون! ثلاثون! أربعون! أي: بحساب واحد في الألف لا واحد في المائة، على ما قدرنا أسخياء في بعض هذا المقال!
أستغفر الله! لقد فاتني أن أقدم السبب الرئيسي لهجرة هذا القدر الضخم من المصريين إلى الغرب في كل عام، وهذا السبب تطالعنا به الصحف السيارة في كل عام، وهل يقع لك عدد من جريدة في مصر طوال أشهر الصيف إلا قرأت فيه: «يبحر «فلان» إلى أوروبا تبديلا للهواء، أو ترويحا للنفس من عناء الأعمال»، أو نحو ذلك مما يدخل في باب الترفيه والاستجمام!
وليت شعري هل تستحيل بلادنا في الصيف فرنا تشوي فيه الوجوه شيا، وتفري الجنوب فريا؟ أليس في بلادنا الطويلة جدا والتي يسلكها النيل من أولها لآخرها، والتي تطل على بحرين لا بحر واحد - أليس في هذه البلاد كلها متنفس في الصيف، ولا متفرج من وقدة حره، ومنتبذ عن أذاه وضره؟ وأخيرا، أليس مصايفنا من وسائل التسلية واللهو ما يريح النفس، ويهيئ الاستجمام! بلى! إن فيها هذا كله وفيها غيره من مطالب رواد الغرب في كل عام!
إذن فما سر هذا التجني والبطر الجريء على البلاد وعلى مصايف البلاد؟
ودعني أزعم لك أيها القاعد أن الكثرة الكثيرة من هؤلاء المهاجرين لا يطيب لهم العيش، إلا في هذه الرحلات الغربية كما تتصور أنت، وكما يصورون لك، بل إني لأتقدم غير متزيد ولا غال، فأزعم لك أن كثيرا منهم لا يجدون فيها إلا ضيقا ورهقا، فإن في الغربة أولا لضيقا وإن في تغيير أسباب المعيشة فجاءة لعنتا ورهقا، وناهيك بازدراء أطعمة لم تألفها، والاضطراب في بيئات لم تعرفها، والتزام عادات لا عهد لك بها، وأخذك النفس بأمور لم يسبق لك علاجها ولا التمرين فيها، وكيف بالمرء مع هذا إذا كان لا يحذق لغة القوم الذين يعيش فيهم ويضطرب بينهم؟
وهذا إلى الهم بترك الوطن والبعد عن الأهل والولد وطول شغل النفس بإهمال العمل، إذا كان المهاجر من أصحاب العمل، وهذا وهذا إلى ما يجشم هذه الهجرة من ألوان النفقات، وما تستخرج من جليل الأموال التي قد يستعان عليها بالاستدانة، أو الانطواء في سبيلها على الضيق والعسر في سائر شهور العام!
ولقد يسقط الكثير من هؤلاء إلى باريس، فباريس قبلة الكثرة من هؤلاء المهاجرين، فيثوي في أحد فنادقها لا يغادره إلا إلى مقهى، أو ملعب من الملاعب أو مباءة من مباءات العبث، ويظل مضطربه بين هذه المواطن الثلاثة أو الأربعة طول مدة الإقامة هناك؛ حتى يأذن الله في عودته ولقد يوالي الهجرة إلى باريس عشرين عاما وهذا شأنه، ما يرى من باريس غير ما رأى، ولا يعرف عنها أكثر مما عرف. الفندق، والمقهى، والملعب، وما عسى أن تنزلق إليه رجله من مباءات العبث، وليس وراء عبادان بلد!
وبعد، فإذا طلبت حقيقة السبب في هجرة كثرة هؤلاء المهاجرين إلى الغرب على ما فيها من كثرة النفقة، وعظم المشقة، واحتمال ما وصفت لك من فنون الضيق والعنت، فهو لا يعدو الرغبة في التكاثر والظهور بالأبهة والفخفخة وتقليد المترفين من أصحاب الثراء، فالشخوص إلى أوروبا أصبح عند هؤلاء بمثابة الرتب وألقاب الشرف، ولولا بقية من حياء لطبع هؤلاء على رقاع الزيارة:
فلان الفلاني
سافر إلى أوروبا
Неизвестная страница