152

وما له - لعمري - يقرأ وما له يكد النفس ويعنيها في الحفظ والمراجعة، وما له يستهلك الزمن في تقليب النظر في روائع الآداب، وترشف ألوان البلاغات كما يترشف الماء الزلال ذو الغسلة الصديان؟ ما له يعاني كل هذا أو بعض هذا ولقب الأديب ولقب الشاعر مكفول له من غير كد ولا مطاولة ولا مفارقة جهاد؟ ... إلخ.

وبعد، فلقد يكون في هذا الكلام شيء من القسوة، ولكنه لا يعدو الرغبة في الخير على كل حال، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.»

وكيفما كان الأمر فإن هذا الضرب من الأدب قد انحط في الجملة، بل لقد هوى إلى قرار سحيق، وإن ما تسمع من هذه المقطوعات الغنائية ليشعرك حقا بأن كثرة هؤلاء الناظمين قد ارتجلوا حرفة الأدب ارتجالا، وانتحلوها انتحالا ما عناهم في سبيلها جهد ولا تحصيل، وإن من لا يبذل في سعيه إلا الجهد الرخيص لحقيق بأن لا يظفر إن ظفر إلا بالحظ الرخيص، وليس أدل على هذا من أن الكثرة الكثيرة من هذه المنظومات الغنائية لا يكتب لها العيش إلى اليوم الثاني، ولا أدري كيف لا يكون من هذا وحده لأولئك الناظمين؟

1

ولو قد تفقدنا السبب الحق في تدلي المستوى - في بعض أسبابنا - وأعني مستوى الأدب - على وجه خاص - إلى الحد الذي يضر ويؤذي، لأصبناه في هذا الطائف الذي يطوف بنا في هذه السنين، وهو ضعف العزائم وقلة الصبر وتعجل الثمرات، وابتغاء النتائج من غير تقديم ما يحتم المنطق وتقضي الطبيعة بتقديمه من المقدمات!

هؤلاء ناس يحبون المال ويشتهون الغنى، ولكنهم لا يبتغون المال من وسائله، ولا يطلبون الغنى من طريقه المقسوم من حسن القصد، وموالاة السعي والتخفف مما لا حاجة إليه من النفقات، وموالاة الجمع والتثمير، ولكنهم لا يجدون في أنفسهم الكفاية من الوسائل المقدرة لإصابة الغاية، ولا من قوة الصبر والانتظار ولا من احتمال الجهد في سبيل الجمع والادخار، ولا شيء من هذا الذي يدرك به في العادة الغنى واليسار، إذن فليقامر فلقد يكون إقبال الدنيا في القمار، والقمار - حرسك الله وعصم عليك مالك - وإن قل، سبيل ميسرة لكل إنسان، فمن ثقل عليه أن يستوي إلى إحدى موائده الخضراء لهوان شأنه وضيق يده، فلا يثقل عليه أن يخاطر في حلبة السباق، أليس الجواد «الفلاني» قد أغل الريال عليه مائتي جنيه؟ ومن ثقل عليه أن يؤدي نصاب الرهان على الخيل فليشارك في النصاب، وإلا ففي ورقة اليانصيب متسع للجميع، وفيها المائة والمائتان والخمسمائة والألف والآلاف، وهكذا يجيء الغنى عفوا بلا سعي ولا كد ولا عناء! ثم إذا كف المسكين صفر، سواء في آخر الليل أو في آخر النهار!

وإذا كان هناك فرق بين هذا الذي يطلب الغنى من غير سبيله، وذلك الذي يشتهي أن يجني ثمرات الأدب من غير سبيله، فإن الحظ محتمل لذلك ولو بنسبة 1 / 100000 أما هذا فغير مقدور له حظ أبدا.

لا، لا، يا بني، لا تظن أن المنزلة في الأدب أو في غير الأدب تواتي بمثل هذا اليسر كله، فالأدب يغتضبك مهما تكن قد رزقت الموهبة أن تسهر الليالي في حفظ الروائع التي جاد بها من سبقوك من أئمة البيان، وفي تقليب الذهن في بلاغات من تقدموك من كفأة أصحاب البلاغات، وشدة المطاولة في محاكاتهم، والتشبه بهم في منازع بلاغاتهم، فإذا تهيأ لك أن تستحدث طريفا أو تبتدع في الفن جديدا، فأنت الأديب الموهوب بفضل الله، أما أن تطلب الطفرة وتلتمس النتيجة من غير مقدمات، فالطفرة - لو علمت - محال، لن تكون أكثر من أديب مرتجل، أو بالتعبير العامي أديب شيطاني ما دمت تقنع من السعي بأن تنظم كلاما فارغا مليخا، تلفقه تلفيقا لا براعة فيه من كلمات جمال الطبيعة والأشجار والأزهار والأطيار، والعبير، والغدير، والهدير، والقمر والنجوم، والسحاب والغيوم، فإذا وصلت بسلامة الله إلى «لحف الخلود» فقد أديت «رسالة الأدب» وحق أن يذهب لك صيت وذكر في التاريخ، وما شاء الله كان!

لا، لا يا بني، لا يكفي أن تؤلف، أو على الصحيح أن تلفق من هذه الكلمات، أو منها ومن سواها، كلاما بائخا مليخا، لا طعم له في مساغ النظام ثم تطلع به على مغن حدث أو مغنية حدثة لتصك بترديد أسماع الناس صكا، لا يكفي هذا في ابتغاء الرزق من الأدب والمنزلة في الأدباء.

وسامحني يا بني إذا قلت: إنك وأمثالك من أصحاب هذا الأدب الفج - العجر - لتجنون على أنفسكم أولا، وتجنون ثانيا على الأدب في هذه البلاد وغير هذه البلاد!

Неизвестная страница