ولقد قلت لك: إن الاحتفال بالعرس كثيرا ما كان يستغرق ليالي لا يقتصر على ليلة واحدة، وهذه الليالي كانت في الغالب ثلاثا: اثنتين منها تدعيان بالصمم - بضم ففتح - أما الثالثة وأعني بها الأخيرة فليلة «الزفة» أو ليلة «الدخلة»، ليلة تولم الولائم ويقرب لجمهرة المدعوين شهي المطاعم.
وأولى هذه الليالي تخص بخيال الظل، وهو عبارة عن دكة كبيرة تعلو واجهتها شاشة بيضاء تقرب مساحتها من شاشة السينما الآن، أما جوانبها الأخرى فتحجب بألواح من الخشب يداخل بعضها في بعض، وفيها باب لدخول اللاعبين وخروجهم، وفيها يضيئون مشاعل قوية لتجلو على النظارة ما يعرضون من الصور في وضوح وجلاء.
أما هذه الصور فلأناس، ودواب، وطيور، وأشياء، وتسوى هذه الصور من الجلد ونحوه، تصبغ بمختلف الأصباغ لتحاكي ألوان ما يبدو من الأجسام والثياب.
ويمثل خيال الظل رواية قوامها عشق وصبابة بين فتى مصري صميم، وفتاة بنت راهب مسكنها مع أبيها الدير! ويتخلل هذه الرواية صور استعراضية متنوعة، وكل من يحرك صورة من صور هذه الأناسي يجري الكلام على لسان صاحبها في دقة وبراعة تقليد، حتى كأنها هي التي تتحدث بأسماع الناس، فهناك المغربي، والسوري، والبربري وابن البلد المصري، ومن هؤلاء، ونسمع ما شاء الله من رائع النكت، وقد يكون بعضها من عفو الارتجال.
ولقد كان أفخم خيال للظل هو الذي يديره المعلم حسن قشاش، وكان سيد أصحاب النكتة فيه غير مدافع هو المرحوم ناجي، وقد رآه كثير من أهل هذا الجيل ممثلا بشخصه في الأعراس، أو في دور التمثيل في الفصل المضحك الأخير، أما دور ناجي في خيال الظل، فكان تمثيل الغلام بولس شقيق علم، والترسل بينها وبين صاحبها تعاتير حتى يصل بينهما الزواج، وكان - رحمه الله - يرسل بالنكتة بعد النكتة في خفة روح ولطف إيقاع، حتى يكاد يشق أضلاع النظارة من شدة الضحك المتواصل بغير انقطاع.
وقد ذهب عني أن أقول لك: إن الطبل البلدي كان له مجلس بين يدي الخيال ليعزف في أوقات الاستراحة أو ليرقص على توقيعه من يرقص من أشخاص الخيال.
أما الليلة الثانية فيبعث السمر فيها أبو رابية، وأبو رابية علم على تلك الفرق التي كانت تمثل بأشخاصها في مقدمات ليالي الأعراس، إذ كانت تصف الدكك والكراسي على عذاري الطريق لجلوس النظارة إذ يترك وسطها مسرحا لاضطراب هذه الطائفة من المفلسين، وكانت هذه الفرق تمثل كذلك روايات إذا أسفت مطالبها وسخفت مغازيها، فلقد كانت سرية بما يشيع فيها من بارع النكتة، ولقد كانت الحال تدعو إلى ظهور امرأة في بعض الرواية، على أن امرأة لم تكن تظهر أبدا فكان يتخذ لهذا الدور إما مخناث محترف، وإما رجل يحسن تقليد النساء.
ولا شك أن سيد هؤلاء المفلسين كان المرحوم الحاج أحمد الفار الكبير، والعجيب أن هذا الرجل على خصوبة بديهته، وتدفقه بالنكتة يشق الناس لها ثيابهم من ضحك ومن انبهار لم يكن يبتسم أبدا، بل لقد كان يتكلف الجد إلى حد أنك تراه دائم العبوس.
ومما يحسن في هذا المقام ذكره أن هؤلاء المفلسين كانوا يعتمدون رجلا من صلب أصحاب العرس أو من حواشيهم، ولعل ذلك كان بالاتفاق معهم، فيتخذون منه عامة الليل هدفا للنكتة حتى ما يدعو فيه أديما صحيحا والناس يضحكون، والرجل معهم من الضاحكين.
وحسبنا هذا اليوم، وسنفرد ليوم العرس حديثا خاصا إن شاء الله.
Неизвестная страница