أحببته أكثر مما أحبني أو مثل ما أحبني، فإنني أشك في أن حبه لي وعطفه علي مما يحتمل المزيد!
وفي يوم أسود رجعت من عملي بعد الظهر، وما أن بلغت الدار حتى تقدمت بإعداد غدائي كنت جائعا متعبا، وفيما أنا في الانتظار إذ رن جرس التليفون، وإذا الأذان بأن الحديث من بلدة كذا وإذا المتحدث أكبر أولاده، قال في سرعة: احضر يا فلان حالا، فوالدي في حال شديد جدا، بحيث لا يجرؤ أحد على كلامه أو الدنو منه، فلعلك أنت لوضعك منه الذي يستطيع أن يستدرجه لحديث وأرجو أن نفرج عنه بعض الفرج، فقلت له: ما الخبر ويحك! فقال: إن فلانة، يعني صغرى إخوته جميعا قد غابت وانقطع الخبر عنها من ثلاثة أيام، ولم يجد البحث والتفتيش وقلب البلاد ظهرا لبطن في طلبها فتيلا، فهتفت من فوري بأهل الدار أن يمسكوا عن إعداد الطعام ويعدوا حالا جعبة السفر، وأرسلت في طلب سيارة أبلغتني المحطة في آخر لحظة، وتدليت هناك فإذا سيارة الباشا في انتظاري، وبلغت الدار وما كدت أطلع على الحديقة حتى تعاظمني منظر هذه الجماهير من الناس شغلت كل رقعة، واحتلت ظل كل شجرة وجزت إلى فناء الدار فإذا خلق كثير جدا، وكلهم جالس مطرق لا ينبس أحد منهم بكلمة، وقد اغبرت الوجوه جميعا والباشا جالس على طرف دكة لا يشغلها معه أحد، فلما طلعت على المجلس أومأ إلي أن أجلس بجانبه، فجلست وما سلمت عليه ولا هو حياني، وأطرقت كما أطرق سائر الناس.
ولقد قلت لك: إنه ساكت لا يتكلم، ولكنه كان في كل فترة يزفر زفرة حرى، لقد كانت ولا شك بخارا من لهيب يتسعر في الأحشاء، وجلسنا على هذا يومين، وفي الصباح الباكر لليوم الثالث أومأ إلي بأن أسافر، فنزلت على إشارته ورجعت إلى القاهرة؛ لأني أعمل فيها، ولم أتردد لحظة واحدة في الفكرة التي اعترتني من اللحظة الأولى، هذه الفكرة التي يوحي بها أبسط واجبات الحب والولاء وعرفان الجميل لهذا الرجل العظيم؛ وتلك أن أطلب إجازة طويلة أقضيها في التقلب في البلاد، باحثا مفتشا منقبا على بنته العزيزة، ولو دعا الأمر إلى التنكر والاضطراب في مختلف الأزياء، ولقد اشتد بي الوجد مما دهى صديقي العزيز، وقد علت به السن وتشرف على نهاية العمر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وقبل أن أسترسل إلى غاية هذا الحديث أصف لك وصفا موجزا هذه البنت المختفية من بضعة أيام:
لقد كانت سنها بين الرابعة والخامسة، حلوة جميلة جدا، بيضاء الجسم ذهبية الشعر، بالغة غاية الأناقة في ثوبها الغالي الثمين، تراها فتخالها دمية فرت من معرض نماذج «فترينة» لغالي الثياب، خفيفة الروح حلوة الحديث، وخاصة إذا عادت ما يلقى عليها من كلام خيالي يراد به الإطراف والإضحاك، ولي معها في هذا مواقف كلها ضحك وإغراب! وكانت لذلك تتعلق بي كلما هبطت إلى دارهم، وكنت أحبها كحب ولدي الأعزين، وكانت قرة عين لأبيها وناهيك بأصغر الأولاد، وخاصة إذا كانت مثل هذه الدرة في الحلاوة والنقاء.
هبطت القاهرة، وقد جمعت النية الصادقة الماضية على ما أسلفت عليك، وسألت الإجازة لشهر ونصف الشهر، ومضى يومان وأنا في انتظار الإذن لي فيها على أنني أوالي السؤال بالتليفون كل ساعة، فإذا مصير البنية ما يزال في الغيب المحجوب، وإذا والدها المسكين على حاله، ولم يزل يعاني في ذلك العذاب المضني الأليم.
وانقلبت الدار في اليوم الثالث قافلا من عملي، وتقدمت بإعداد غدائي فإذا جرس التليفون يرن وإذا ولد صاحبي يدعوني في فرح ظاهر أن أحضر لأهنئ أباه الشيخ، فلقد عثر على أخته فلانة والحمد لله، فقلت مسرعا: وكيف عثر عليها وأنى كان ذلك؟ قال: لقد أمر وزير الأشغال حين انتهى إليه احتمال غرقها؛ بتجفيف بحر «كذا»، وكذلك ألفينا جثتها في الموضع الفلاني - وهو يقع على بضعة أمال من الدار - وقد أكرمها الله تعالى، فلم ينل من جسمانها السمك كثيرا ولا قليلا.
وأسرعت بإعداد جعبة السفر وجففت إلى لقاء صاحبي، فإذا جموع كثيرة تلغو وتتقاول في مرح واغتباط، وإذا صاحبي يظهر عليه طيب النفس وانبساط أسارير الوجه، ولم يكد يراني حتى خف للقائي في بعض طريقي إليه، وما أن توافقنا حتى عانقني وجعل يقبلني وجعلت أقبله وأنا أشعر أن الدنيا لا تكاد تسعه من سرور ومراح!
ثم جعل يحدثني كعادته أحاديث هذه الدنيا حتى إذا انصرف من مجلسه، قافلين إلى ديارهم أو ثاوين في داره إلى فراشهم، وحينئذ جذبني إلى حجرة جلوسه الخاصة، ودعا بالنرد ورحنا نتلاعب به إلى ما بعد انتصاف الليل، وهو كلما انتهى دست يقبل علي بحديث طريف على أنه لا يلم بشيء من حديث بنته الغرقى لا من قريب ولا من بعيد!
الله أكبر! الله أكبر! إذن لم يكن هذا الوجد كله، ولا هذا الوله المرعب المهول من أن البنت قد أدركها الغرق أو أنها ماتت على أي شكل من الأشكال، وإنما الجزع كله من أن تعيش في ولاية خاطف مجرم من النساء أو الرجال!
Неизвестная страница