». ولن آخذ على نفسي أن أحدد تحديدا دقيقا أي وعد في عصرنا هذا يتعهد به المؤلف لقارئه، إذا صاغ ما يكتب في كلام منظوم، ولا سبيل عندي إلى الشك في أن نفرا كثيرا سيخيل إليه أني لم أوف بعهود الميثاق الذي أخذت به نفسي طواعية حين نظمت هذا الشعر؛ فأولئك الذين ألفوا أن يسمعوا من كثير من الكتاب الحديثين ألفاظا مزخرفة جوفاء، سيضطرون بلا ريب في غير قليل من المواضع - إن هم صبروا في تلاوة هذا الديوان حتى ختامه - أن يجاهدوا شعورهم بما يصادفون من غرابة ونبو. إنهم سيتلفتون حولهم باحثين عن الشعر، ويودون لو يسألونني أي ضرب من التجوز قد أباح لهذه المحاولات أن تنتحل لنفسها هذا العنوان. فأرجو إذن ألا ينحو علي القارئ باللائمة إذا حاولت أن أبسط ما التزمت أمام نفسي أن أؤديه؛ وأن أشرح كذلك (ما سمحت لي حدود المقدمة بذلك) بعض الدوافع الأساسية التي حدت بي أن أنحو إلى ما نحوت إليه من غرض؛ فبذلك يستطيع القارئ على الأقل أن يجنب نفسه شعورا كريها بخيبة الرجاء، وأستطيع أيضا أن أتقي نقيصة من أشنع ما يرمى به الكاتب من نقائص، ألا وهي التراخي، الذي يمنعه أن يستيقن ما واجبه، فإن كان ذلك الواجب بين المعالم منعه التراخي أن يؤديه.
إذن فالغرض الأساسي الذي قصدت إليه بهذه الأشعار، أن أنتزع من الحياة العامة أحداثا ومواقف، أصفها أو أرويها، من أولها إلى آخرها، في نخبة مختارة من الألفاظ، التي يستخدمها الناس في حياتهم الواقعة، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، ثم أخلع عليها في الوقت ذاته لونا من الخيال، الذي يجب أن نكسو به الأشياء المألوفة حين نقدمها إلى العقل، لكي تصبح خلابة المظهر، وبعد ذلك، بل وفوق ذلك كله، أخلق المتعة في تلك الحوادث والمواقف، بأن أجريها - بالحق لا بالمظهر الخادع - وفق النواميس الأساسية للطبيعة الإنسانية، وأهمها ما يتعلق منها بالطريقة التي يستقبل بها الإنسان الأفكار وهو ثائر النفس. ولقد آثرت بصفة عامة حياة الريف الساذجة المتواضعة؛ لأن ذلك الضرب من الحياة يهيئ للعواطف القلبية المتأصلة تربة أصلح لاكتمال نضوجها؛ إذ لا يثقلها بأغلاله، فتجري بمكنونها الألسنة أصرح لفظا وأفعل أثرا؛ وكذلك آثرت حياة الريف لأن مشاعرنا الأولية تكون فيها أقل تعقيدا فنستطيع أن نتأملها على نحو دقيق، وأن ننقلها للقارئ في صورة أروع، ومن تلك المشاعر الأولية تنبت الأخلاق الريفية؛ فهي أيسر استساغة وأبقى على الزمن لطبيعة أعمال الناس في الريف؛ وأخيرا آثرت لشعري تلك الحياة لأنها تتيح للعواطف الإنسانية أن تندمج في مظاهر الطبيعة الجميلة الخالدة. وقد استخدمت كذلك لغة هؤلاء القوم (وإن كنت قد صفيتها مما يبدو معيبا حقا، ومما يدعو الناس إلى دوام بغضها ومقتها من أسباب معقولة) لما لهؤلاء الناس من صلات لا تنقطع بآيات الكون الفاتنات التي منها اشتققنا في البداية أروع أجزاء اللغة؛ ولأنهم بحكم منزلتهم في الجماعة، وتشابه حياتهم وضيق أفقها، وبعدهم عن التأثر بزيغ المجتمع، يبثون مشاعرهم وخواطرهم في عبارات ساذجة لا زخرف فيها؛ لذلك كانت هذه اللغة الساذجة التي نشأت من التجربة المتكررة والمشاعر المطردة، أطول بقاء وأعمق فلسفة تلك التي كثيرا ما يستبد بها الشعراء، الذين يحسبون أنهم يضيفون إلى أنفسهم وإلى فنهم شرفا بمقدار ما يباعدون بين أنفسهم وبين عواطف الناس، وما يغوصون في طرائق التعبير الحائرة التي يفرضونها فرضا؛ رغبة في أن يهيئوا بها طعاما لأذواق متحولة ورغبات متقلبة هي صنيعة أيديهم.
1
ولكني مع ذلك لا يجوز أن أصم آذاني عن الصيحة التي تتردد اليوم مستنكرة إسفاف العبارة وتفاهة المعنى التي يصطنعها أحيانا بعض المعاصرين فيما ينظمون من شعر؛ وإني لأعترف أن هذه النقيصة، حيثما وجدت، أجلب للضعة إلى شخص كاتبها من ذلك الصقل المزيف والطرافة الممجوجة؛ غير أني في الوقت نفسه أؤكد أن نتائج الأولى في مجموعها أهون من الثانية شرا. على أن القارئ سيتبين في قصائد هذا الديوان ما يميزها من تلك الأشعار بوجه واحد من وجوه الاختلاف على أقل تقدير؛ وذلك أني نشدت في كل قصيدة من قصائدي غرضا نبيلا . ولست أعني بذلك أني كنت أبدأ الكتابة دائما وفي نفسي غرض محدود أدرك هيكله، ولكن إطالة التفكير، فيما أعتقد، كانت تستثير مشاعري وتنظمها، بحيث جاءت القصائد الوصفية، التي تتناول من الأشياء ما يثير تلك المشاعر إثارة عنيفة، ولها غرض تقصد إليه، فإن تبين بطلان هذا الرأي فليس لي إلا أصغر الحق في أن أكون شاعرا، فما الشعر الجيد بأسره إلا فيض المشاعر القوية من تلقاء نفسها. على أنه، وإن كان هذا حقا، فإن القصائد التي تستحق شيئا من التقدير، مهما اختلف موضوعها، لم ينظمها قط إلا رجل، فضلا عما أوتيه من حس مرهف ممتاز، قد أطال التفكير وغاص إلى أعماقه؛ وذلك لأن فكر الإنسان يشكل مجرى شعوره المتدفق المتصل ويأخذ بزمامه؛ ذلك الفكر الذي إن هو في حقيقة الأمر إلا صورة تمثل كل ما مضى بنا من مشاعر. وكما أن الإنسان إذا أنعم الفكر فيما يربط تلك الصور الذهنية العامة بعضها ببعض من صلات، تبين له من العلم ما يهمه في حياته، فكذلك إن هو عاود هذا التفكير وواصله فإن مشاعره سترتبط بتلك الحقائق الهامة ارتباطا ينتهي به، إذا كان ذا طبيعة موهوبة بالحساسية الخصبة، إلى اكتساب عادات عقلية من شأنها - إذا أطاع دوافع تلك العادات إطاعة آلية عمياء - أن تمكنه من وصف الأشياء والتعبير عن العواطف التي تنير عقل القارئ إلى حد ما وتزيد من عاطفته قوة وصفاء، بحكم طبيعتها واتصال أجزائها.
لقد سبق لي القول إن لكل قصيدة من هذه القصائد غرضا. ولا بد أن أشير إلى ناحية أخرى تمتاز بها هذه الأشعار عما يسود في هذا العصر من شعر، وهي أن ما بثثت في القصيدة من شعور يزيد في جلال الحادث أو الموقف، وليس الموقف أو الحادث هو الذي يضيف إلى الشعور ما له من جلال.
ولن يمنعني التواضع الزائف أن أقرر أن ما يدفعني إلى توجيه نظر القارئ إلى هذه الصفة المميزة هو خطورة الموضوع في إجماله أكثر منه عنايتي بهذه القصائد بذاتها. ألا إنه لموضوع خطير حقا! إذ في مقدور العقل البشري أن يتأثر دون أن يتعرض للبواعث القوية العنيفة، وإن من لا يعلم هذا، ومن لا يعلم فوق هذا أن الأحياء تتفاوت سموا بمقدار ما أوتيت من هذه المقدرة، فلا بد أن يكون ضعيف الإدراك جدا لما للعقل من جمال وجلال؛ لهذا يلوح لي أن الجهد في إنشاء هذه الملكة أو إرهافها خدمة جلى جديرة أن تشغل الكاتب في أي عصر، غير أن هذه الخدمة إن كانت جليلة في كل العصور، فهي أكثر جلالا في عصرنا هذا، حيث تتآزر اليوم طائفة الأسباب التي لم تعرفها الأعصر السالفة على أن تثلم ما يميز من قوى، وأن تفقده القدرة على النهوض بمجهوده طواعية، حتى إنها لتوشك أن تعود به إلى حالة من العقم المخيف. وأبلغ هذه الأسباب أثرا ما ينتاب هذا الوطن من جسام الحوادث التي تتجدد كل يوم، واحتشاد الناس المتزايد في المدن، الذي أنشأ فيهم - نتيجة لاطراد ما يؤدونه من عمل - رغبة قوية في الشاذ من الحوادث، التي إن وقعت، تضخمت ساعة بعد ساعة لسرعة تناقل الخبر في الناس. ولقد آلى الأدب والمسرح في هذا البلد على نفسيهما أن يسايرا هذه النزعة من الحياة والأخلاق. إن الآثار القيمة التي خلفها الأسلاف من كتابنا، وكدت أعين تآليف شيكسبير وملتن، لتنحدر إلى الإهمال أمام سيل من القصص الهوجاء والمآسي الألمانية المملة الباردة، وطوفان من القصص المنظومة الجوفاء المسرفة في غلوها. إنني إذا ما فكرت في هذا التعطش المخجل المشين من البواعث، كدت أستحي خجلا مما تحدثت به عن المجهود الضعيف الذي بذلته في هذه الدواوين لأقاوم ذلك الاتجاه. كذلك إذا فكرت في فداحة الشر وشموله لما أثقلت نفسي بما يحز فيها من أسف لهذا الشين، لو لم أكن ثابت اليقين بما للعقل البشري من صفات موروثة تستعصي على الفناء، وبالقوى التي تكمن في الأشياء الجليلة الخالدة التي تؤثر في العقل ولا تقل عنه في نظرتنا رسوخا واستعصاء على الزوال، لم أكن لأثقل نفسي بذلك الأسف لولا ذلك اليقين الثابت ، وإلى جانبه إيمان بأن قد اقترب اليوم الذي يقاوم فيه السوء مقاومة منظمة رجال أعظم عبقرية وأشد توفيقا.
أما وقد أطلت الوقوف عند موضوع هذه القصائد وغرضها، فإني أستأذن القارئ أن أحيطه علما بقليل مما يتصل بأسلوبها بسبب، وإنما أقصد بهذه الإحاطة إلى أشياء كثيرة، منها ألا يأخذ علي القارئ أني لم أؤد شيئا لم أحاول أداءه قط؛ فإنه قل أن يصادف في هذا الديوان تجسيدا للمعاني المجردة، التي أبيت إباء قاطعا أن أستخدمها - كمألوف الشعراء - لتسمو بالأسلوب وترفعه فوق مستوى النثر. إذا أردت أن أقلد لغة الناس وأن أقتبس منها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وإنه مما لا ريب فيه أن مثل هذا التجسيد لا يكون من لغة الناس جانبا، لا طبعا ولا تطبعا. نعم هو لون من ألوان البيان قد تستنيره العاطفة الحين بعد الحين؛ ولذا فقد استخدمته بهذا الاعتبار وحده، ولكني جاهدت أن أطرحه وراء ظهري باعتباره طريقة آلية من طرائق التعبير، أو باعتباره لغة تسود بين جماعة الشعراء، الذين يودون فيما يظهر أن تصبح هذه اللغة خاصة بالشعر في شيء من التحتيم. إنني حريص أن أتيح للقارئ صحبة من لحم ودم، مؤمنا أني بهذا الصنيع أهيئ له شيئا من المتاع؛ وإن سواي ممن يسلكون سبيلا غير هذه السبيل ليودون أيضا أن يبعثوا في نفس القارئ لذة كما أفعل، ولا يعنيني ما يزعمون من دعوى، ولكني أريد أن أؤثر لنفسي دعواي. كذلك لن يصادف القارئ في هذا الكتاب إلا قليلا مما يسمى عادة بألفاظ الشعر، فقد عانيت نصبا أن أتجنبها بقدر ما يعاني سواي أن يصطنعها؛ وإنما فعلت ذلك للسبب الذي سبقت إشارتي إليه، وهو أن أدنو بلغتي من لغة الناس، فضلا عن أن اللذة التي أخذت على نفسي أن أهيئها في شعري لتختلف في نوعها أشد اختلاف عن اللذة التي يظن كثيرون أنها غرض الشعر الصحيح. وإذا أردت ألا أتورط في خطيئة التخصيص فلست أدري كيف أصف لقارئ الأسلوب الذي وددت واعتزمت أن أكتب فيه، وصفا أدق من القول بأنني جاهدت دائما أن أضع موضوعي نصب عيني فلا أحول عنه النظر، فجاءت نتيجة ذلك أن لم تحو هذه القصائد، فيما آمل، إلا قليلا من الزيف في الوصف ولقد صغت خواطري في عبارة تكافئ ما لها من شأن عظيم. ولا بد أن أكون بعد هذه المحاولة قد ظفرت بشيء يلازم إحدى خصائص الشعر الجيد، ألا وهو المعنى الجيد، ولكن تلك المحاولة قد أبعدتني بالضرورة عن كثير من الصبغ وألوان البديع التي طالما عددناها، خلفا بعد سلف، إرثا مشاعا بين الشعراء. ولقد ذهب بي الظن كذلك ألا مندوحة عن التزام قيد آخر، إذ لم أبح لنفسي أن تستخدم كثيرا من العبارات الجيدة الرائعة في حد ذاتها ولكن لاكتها ألسنة الحثالة من الشعراء في غباء، حتى أحيطت بشعور الابتذال الذي يكاد يستحيل على أي فن من فنون المعاني أن يمحوه.
فلو قد جاء في إحدى القصائد مجموعة من الأبيات، بل قل لو جاء فيها بيت واحد، مما تشبه لغته لغة النثر سوى أنها منسوقة بطبيعتها وفق قواعد العروض الدقيقة، وثبت طائفة من النقاد عديدة النفر، دأبها إذا ما عثرت على أسطر من هذا الشعر المنثور كما يسمونه، وصورت لنفسها أنها استكشفت أمرا خطيرا، وأخذت تبتسم للشاعر كأنه رجل جاهل بفنه، فالقاعدة التي يجري عليها هؤلاء النقاد في نقدهم لا مندوحة للقارئ عن رفضها رفضا باتا إذا أراد أن ينعم بهذا الديوان. وإنه لمن أيسر الأمور أن نقيم له الدليل على أن شطرا عظيما من كل قصيدة جيدة، ولا تستثن من ذلك أبرع القصائد وأسماها، لا مفر من أن تستوي اللغة فيه مع لغة النثر الجيد إلا في أن الكلام منظوم، وليس هذا فحسب بل إن أروع الأجزاء في أبرع القصائد هي ما جرت في لغتها مجرى النثر إذا أجيدت كتابته. ونستطيع أن نقيم الحجة على صحة هذا القول بأمثلة لا عدد لها من آثار الشعر كلها تقريبا، بل مما نظمه ملتن نفسه. وتوضيحا للموضوع بصفة عامة سأسوق أسطرا قلائل من شعر «جراي
Gray » الذي كان في مقدمة الذين حاولوا بما ارتأوا من سبل أن يبعدوا مسافة الخلف بين ألفاظ النثر وألفاظ الشعر، وكان أكثر من غيره صقلا لديباجة شعره:
2
Неизвестная страница