ولكني أستطيع أن أسوق أسبابا عدة تبين لماذا يحدث ، إن كان في الأسلوب قوة الرجولة وكان لموضوع القصيدة بعض الخطر، أن يظل الكلام المنظوم أمدا طويلا لذيذ الوقع في نفوس الناس فيستمتعون به استمتاعا يحقق ما علق عليه ناظموه من رجاء. إن الغرض من الشعر هو أن يؤثر في النفس أثرا يبقى ما بقيت نشوته، وإن كانت النشوة أرجح مقدارا من التأثر. وبديهي أنه إذا تأثر العقل كان في حالة شاذة لا تطرد، وفي هذه الحالة لا تتتابع الخواطر والمشاعر في إثر بعضها بالترتيب المعتاد، فإذا كانت العبارة التي أثرت في النفس قوية في ذاتها، أو ارتبط بالخيال والشعور مقدار من الألم لا تدعو إليه الحاجة، خيف أن تنساق النفس في تأثرها إلى أبعد مما يراد بها، فإذا قرنا عندئذ هذا التأثر بشيء معهود ألفه العقل في مختلف حالاته وحيث يكون أقل تأثرا، كان ذلك وسيلة ناجعة لقيد العاطفة والتخفيف من حدتها، وذلك لامتزاج الشعور الذي تعوده العقل بالشعور الجديد الذي لا يرتبط حتما بالعاطفة ارتباطا وثيقا؛ هذا حق لا مراء فيه؛ ولذا فلسنا نشك إلا قليلا في أن المواقف والعواطف التي تكون أحد شعورا؛ أي التي تكبر فيها نسبة الألم الذي تستدعيه، تكون أكثر استساغة في الشعر، والمقفى منه بنوع خاص، منها في النثر؛ وذلك لأن طبيعة الوزن تبعد اللغة إلى حد ما عن حقيقتها، فتبدو القصيدة لذلك في مجموعها وكأن فيها ما يحمل قارئيها بعض الشيء على أن يلمس فيها وجودا موهوما لا حقيقة له؛ تلك هي العلة رغم ما يبدو فيها من تناقض للوهلة الأولى. إن وزن الأغاني القديمة لم يكن نصيبه من الفن عظيما، ومع ذلك ففيها أسطر كثيرة تؤيد هذا الرأي. وإني لآمل أن يجد القارئ في هذه الأشعار التي أقدمها دليلا آخر على صدق رأيي، إن تلاها في عناية وتريث. وفضلا عن هذين الدليلين فأنا أؤيد الفكرة بدليل ثالث وهو أن أحتكم إلى تجربة القارئ نفسه فيما يلقاه من سأم حين يعيد قراءة الأجزاء الحزينة في
Clarissa Harlowe
أو
Gamester . بينما يستحيل أن تؤثر فينا المناظر التي صورها شيكسبير قوية العاطفة؛ بسبب ما فيها من عاطفة، أثرا أبعد مما نحسه في قراءتها من لذة، وهذا الأثر الممتع قد يرجع إلى مؤثرات ضئيلة ولكنها دائمة في نظام، هي مؤثرات المفاجأة اللذيذة التي يصادفها القارئ في وزن الكلام؛ تلك هي علة استمتاعنا وإن بدت علة غريبة عند النظرة الأولى. هذا ومن ناحية أخرى إذا لم تتكافأ عبارة الشاعر مع ما تحمل من عاطفة، ولم تفلح في أن ترفع القارئ إلى ما أريد له أن يعلو إليه من تأثر، فإن الشعور اللذيذ الذي تعود القارئ أن يقرنه بالوزن بصفة عامة، والشعور - مرحا كان أو حزينا - الذي تعود أن يقرنه إلى حركة الوزن في هذه القصيدة بصفة خاصة، هذان الشعوران سيؤثران أثرا عظيما (إلا إذا كان الشاعر قد أسرف في تجاوزه الحكمة عند اختياره لوزن القصيدة) في بث العاطفة في عبارة الشاعر، وفي أن ينتج الشعر ما قصد إليه الشاعر من غاية متشعبة النواحي.
لو كنت آليت على نفسي أن أكتب دفاعا شاملا عن المذهب الذي أؤيده في هذه المقدمة، لكان حتما علي أن أتناول بالتحليل مختلف الأسباب التي عنها تنشأ اللذة التي نتذوقها في تلاوة الشعر. وإننا لنذكر بين الرئيسي من هذه الأسباب مبدأ يعرفه جيد المعرفة أولئك الذين اختصوا فنا من الفنون، كائنا ما كان، بتفكير دقيق، وأعني به استمتاع العقل بإدراكه أوجه الشبه في أوجه الخلاف؛ هذا المبدأ هو المعين الأكبر لفاعلية العقل، كما أنه المورد الأساسي الذي يستمد منه العقل غذاءه؛ فها هنا في هذا المبدأ ينشأ اتجاه الشهوة الجنسية وكل ما يتصل بها من عواطف، وهو الذي ينفخ في أحاديثنا السائرة ما فيها من حياة. وعلى دقة إدراكنا لأوجه الشبه في أوجه الخلاف، أو لأوجه الخلاف في أوجه الشبه، يتوقف ذوقنا وشعورنا الأخلاقي، وقد يكون من المجدي أن أطبق هذا المبدأ على وزن الشعر، فأبين أن هذا هو الأساس الذي يمد الوزن بما يحمله إلينا من لذة عظمى، كما أبين على أي نحو تنشأ تلك اللذة، غير أن حدود المقدمة لا تأذن لي بالدخول في هذا الموضوع، فلأكتف من هذا بموجز عام.
لقد أشرت إلى أن الشعر فيض المشاعر القوية فيضا ذاتيا، وأنه ينبع من عاطفة نستذكرها في حالة الهدوء، فما تزال تلك العاطفة المستذكرة موضع التأمل، حتى يحدث شيء من رد الفعل فينمحي على أثره ما يشتملنا من هدوء، ثم تنشأ بالتدريج عاطفة أخرى قريبة الشبه بالعاطفة الأولى التي كانت موضعا للتفكير، فلا تلبث هذه العاطفة الثانية أن تملأ شعاب العقل. في مثل هذه الحالة الشعورية يبدأ إنشاء الشعر الصحيح، ثم يتصل الإنشاء في حالة شعورية شبيهة بتلك، ولكن العاطفة، أيا كانت نوعا ومقدارا، تثير ضروبا مختلفة من اللذة تختلف باختلاف أسبابها؛ فالعواطف - مهما تباينت - إذا وصفها العقل راضيا، استمد منها العقل بصفة إجمالية شعورا مرحا، فإذا كانت الطبيعة كما تراها من الحذر بحيث لا تسكب في نفس الشاعر عاطفة إلا إذا قرنتها بنشوة حتى يظل في غبطته، فواجب الشاعر أن يفيد بهذا الدرس الذي تلقنه إياه الطبيعة، وحتم عليه بنوع خاص أن يقرن دائما العواطف المختلفة التي يبثها في شعره لقارئه، بقسط وافر من اللذة إن كان عقل القارئ قويا سليما؛ فجرس الكلام المنظوم وموسيقاه، وإدراك ما لقيه الشاعر في نظمه من عسر، واللذة التي تقترن في أذهاننا اقترانا أعمى بالكلام الموزون المقفى لمجرد أننا قد استمتعنا بمثل تلك اللذة من قبل في عبارة تطابق هذه أو تماثلها وزنا وقافية، والإدراك الغامض الذي ما ينفك يتجدد، بلغة شديدة الشبه بلغة الحياة الواقعة ولكنها مع ذلك تباينها أشد التباين لما ينظم ألفاظها من وزن؛ كل هذه تحدث في نفس القارئ شعورا مركبا بغبطة تتسلل إليه من حيث لا يدري، وهي غبطة مفيدة جدا في تخفيف الألم الذي نحسه دائما في ثنايا الوصف القوي للعواطف العميقة. ويحدث هذا الأثر دائما إذا ما التهب الشعر بالعاطفة والشعور، أما في الشعر الخفيف فإن القارئ يستمد متعته بغير شك من سلاسة الوزن وتدفقه. وكل ما ينبغي أن أشير إليه في هذا الموضوع أن أذكر ما سينكره أفراد قليلون؛ ذلك أنه إذا كان ثمة وصفان لعاطفة أو لأخلاق أو لأشخاص، وكان كلا الوصفين جيد العبارة غير أن أحدهما نثر والثاني شعر، كان الشعر خليقا أن يتلى مائة مرة إذا قرئ النثر مرة واحدة.
أما وقد بسطت قليلا من الأسباب التي دفعتني إلى اصطناع الشعر فيما كتبت، والتي حدث بي أن أتخير موضوعاتي من الحياة العامة، وأن أحاول الدنو بعبارتي من لغة الناس الحقيقية، فإنني إذا كنت كذلك أسرفت في تفصيل الدفاع عن قضية هي قضيتي فلقد كنت كذلك أعالج موضوعا يهم الناس أجمعين؛ لهذا سأضيف كلمات قلائل، أشير بها إلى هذه القصائد المعينة وحدها، وإلى بعض ما يحتمل فيها من عيوب؛ فأنا أعلم أن ما طرقت من موضوعات لا بد أن يكون في بعض المواضع خاصا وكان يجب أن يكون عاما، وأنني نتيجة لذلك ربما أكون قد أخطأت في تقدير الأشياء فكتبت في بعض الموضوعات التي لم تكن جديرة بالكتابة فيها، ولكني لست أخشى هذا النقص بقدر ما أخشى أن أكون في عبارتي قد تعنت أحيانا في أن أربط مشاعر وأفكارا بألفاظ وعبارات معينة؛ فذلك عيب ما أحسب أحدا بمستطيع أن ينجو منه نجاة تامة. وإني لذلك لا أشك في أنني قد سقت لقرائي في بعض المواضع مشاعر تثير السخرية، في عبارة رقيقة مليئة بالعاطفة، ولكني لو كنت على يقين أن مثل هذه العبارات زائفة حقا وضرورة الشعر وحدها تحتم بقاءها رغم بطلانها، لارتضيت طائعا أن أحتمل كل ما أستطيع من عناء في سبيل تصحيحها، ولكن من الخطر أن أحدث هذا التحوير لمجرد أن أفرادا قلائل ليس لرأيهم في الموضوع وزن راجح، أو حتى لمجرد أن طبقة خاصة من الناس، تريد ذلك؛ لأنه إذا لم يقتنع عقل الكاتب، أو إذا أصاب مشاعره شيء من التحوير، كان في ذلك أذى جسيم لنفسه؛ لأن مشاعره هي قوامه ودعامته، فإذا أطرحها مرة جاز له أن يكرر هذا العمل، حتى يفقد عقله الثقة في نفسه، ويصيبه الفساد التام. وإني لأضيف إلى ما تقدم أنه ينبغي للناقد أن يذكر دائما أنه هو أيضا معرض لنفس الأخطاء التي يتعرض لها الشاعر، بل قد يكون أشد من الشاعر استهدافا للخطأ؛ إذ لا يجوز أن نفرض في معظم القراء ترجيح ألا يكونوا على أتم العلم بمراحل المعاني المختلفة التي اجتازتها الألفاظ، أو بما تتصف به الروابط التي تصل تلك المعاني بعضها ببعض من تقلب أو ثبات، كلا ولا يجوز بصفة خاصة أن نقول إنه ما دام القراء أقل منا شغفا بالموضوع، فسيقضون بحكمهم في الأمر في استخفاف وإهمال.
وما دمت قد وقفت بالقارئ هذه الوقفة الطويلة فأرجو أن يأذن لي في أن أحذره من نوع من النقد الباطل الذي يوجه إلى الشعر الذي صيغ في لغة شبيهة بلغة الحياة الواقعة. ولقد استطاع النقد أن ينتصر على مثل هذا الشعر حيثما صيغ فيه الجد بقالب الهزل، ولعل أقوى مثل لهذا النوع هذه الأسطر الآتية للدكتور جونسون:
وضعت قبعتي على رأسي،
ومشيت في ستراند،
Неизвестная страница