وانطلق في طريقه بإصرار فاستأجر شقة في الزمالك وأثثها حتى جعل منها متحفا، ودعانا على شهود عرسه على مائدة عشاء في الأوبرج، وجدنا العروس امرأة في منتصف الحلقة الرابعة، ريانة الجسم، حسنة الوجه، لم يفلح ثوب الزفاف في مداراة ابتذالها، ونطقت نظرة عينيها الثقيلة بالخبرة والمزاج. قلنا إن حياته المتحررة ما بين خان الخليلي والعوامة لا تتنافر مع أصله بقدر ما تتنافر معه هذه الحياة الشرعية الزائفة، ولو قامت على الحب لوجدنا له عذرا ولكننا تصورنا أنها لم تقم إلا على العناد والكبرياء، أما هو فأكد لنا - في قشتمر - أنها أفضل من الأخريات، وأنها تنحدر أيضا من أسرة طيبة! وما وسعنا إلا أن ندعو له بالتوفيق والسعادة.
وببلوغ إسماعيل قدري الستين حقق في المحاماة بمكتبه الذي استقل به نجاحا مرموقا، وناهزت تفيدة السبعين فانهزمت أمام العمر واستسلمت للواقع وراحت تعاني من دوالي الساقين والصداع النصفي. وتخرج هبة الله مهندسا في الرابعة والعشرين من عمره، وبقلب حطمته الهزيمة وانتكاسة البطل فحقق حلما راوده من قديم وهو الهجرة، فهاجر إلى السعودية، وجزعت تفيدة ولكن إسماعيل قال لها: لست دونك في النكد ولكن لعله يجد في المال عزاء.
ولم ينسه عمله ولا نجاحه أحزانه السياسية ولا هزيمة وطنه، وانضم إليها ذبول زوجته وهجرة ابنه. ولاحظنا أنه مال في تلك الفترة إلى الحديث عن الروحانيات وعجائب الباراسيكلوجي. حقا قد مر بها قديما في سياحته الثقافية، كما أن جولات حمادة الثقافية المتضاربة لم تخل منها، ولكن إسماعيل وجد في أقوال المتصوفين سحرا جديدا، حام حوله، وثمل به، واتجه نحو قبلته كملاذ من لواعج قلبه، وقال صادق ببساطة: اعترف بأنك ترجع إلى الدين.
فقال له متأففا: لا تبسط الأمور فتفقدها مغزاها.
وقال طاهر عبيد: الليالي حبالى بالعجائب، والظاهر أن سلسلة الهزائم لا نهاية لها!
وبدا إسماعيل حائرا بين كبريائه وحنانه.
أما طاهر عبيد فقد حزن على الزعيم أكثر مما حزن الزعيم على نفسه، وتلا علينا ذات مساء قصيدة رثاء تقطر حزنا ومرارة وسخرية من النفس، ولم يسمع القصيدة أحد سوانا، ولم تعد الأجهزة تردد أغانيه، فهي أغان لا تسمع إلا في جو النصر، واعترف لنا ليلة قائلا وموجها حديثه إلى إسماعيل بالذات: زوجتي في حال تفوق في السوء زوجتك.
فقال إسماعيل بمرارة: أعطيتا خير ما عندهما.
فقال بقسوة: أصبحت أعافها.
فقال إسماعيل ساخرا: كل شيء يعاف في النهاية.
Неизвестная страница