فبدت منه ضحكة باردة وقال: انسوا الموضوع تماما.
ولكن حب الاستطلاع لم يترك لنا حيلة، فقال بضيق: انتظرت أمس عند محطة الترام، وحتى تلك اللحظة كنت عاشقا تماما، كما كان صادق وكما كان طاهر. - ثم؟ - رأيتها بصحبة مامتها قادمتين نحو المحطة، تخيلت ما سيحدث، سنستقل معا حجرة الدرجة الأولى، يتم التعارف، نجلس بعد ذلك في مكان مناسب لتحديد الخطوط الأولى، أجل لم يعد بيني وبين النهاية إلا خطوة، خطوة واحدة وأنتقل من حال إلى حال، من دنيا إلى دنيا، من فلسفة إلى فلسفة، وسرعان ما وجدتني على برزخ فاصل بين حلمي الطويل بالحرية المطلقة وبين عاطفة طارئة مغرية تدعوني إلى العبودية، وشعرت بتمزق فظيع، البنت جميلة وتطالعني بعينين مرحبتين، ووراءها أمها تضفي علينا طهارة وشرعية، تمزقت تماما، ملكني رعب هائل، وجاء الترام ووقف، وصعدت إليه أمها، ثم تبعتها وهي تبتسم إلي، وما علي إلا أن أصعد وينتهي كل شيء، ولكني تسمرت في مكاني، ونظرت بعيدا هربا من عينيها، وتحرك الترام، ولبثت في موضعي وأنا أتنهد بعمق وأتذوق النجاة وترتعش أطرافي من شدة الخجل.
لفنا الذهول مليا ثم انفجرنا ضاحكين: الله يخيبك يا بعيد! - أحرجت البنت وأمها. - بنت مناسبة جدا. - سوف تندم.
وعند ذاك قال برجاء: انسوا الموضوع تماما.
وسكتنا احتراما لمأساته، ربما نعود إلى الموضوع فيما بعد. الحق أن الموضوع في ظاهره بين الوضوح؛ فهذا رجل يعشق الحرية المطلقة، وله من الظروف المادية ما يتيح له ذلك، ولكن كيف يطيق إنسان سوي ألا يلتزم بشيء؟ .. لقد تصور إسماعيل قدري أنه رجل عاجز عن الحب الحقيقي، ولكنه أحب الفتاة، وهل لا يكون الحب حبا إلا إذا جرى على شاكلة حب المجانين أو حتى الحب السينمائي؟! ولكن حمادة في هذه الدنيا كزائر متحف للعرض لا للبيع، في السراي مع مامته، في خان الخليلي مع الجوزة، في العوامة مع المحترفات، في المكتبة مع العقول والقلوب. وقال إسماعيل قدري مرة: إذا تعددت الأهداف تلاشى الهدف.
أما صادق صفوان فسلم بالأمر الواقع قائلا: أعترف بخطئي وأقول إن حمادة لن يتزوج أبدا.
وقد تزوج أخوه توفيق بعد عام واحد من وفاة أبيه، وعن طريق أمه عفيفة هانم بدر الدين، من إحدى عقائل الأسر الكريمة بالعباسية الشرقية، وأرادت الهانم أن تزوج حمادة أيضا ولكنه خيب مسعاها في ذلك أيضا. وقالت المرأة متسائلة: لا عمل، ولا دراسة، ولا زواج، لماذا تعيش؟!
أما الشيء الرديء فهو أن أسرار الحياة الخاصة لحمادة يسري الحلواني قد فاحت في العباسية ولهجت بها الألسنة. وما العباسية إلا قبيلة كبيرة لا يخفى فيها سر. عرف الناس سر الفتى الحائر، وشقته الشرقية بخان الخليلي، وعوامته الجميلة بشارع الجبلاية، وعرف بالحشاش المنحل. وقالت عفيفة هانم: يا خسارة أولاد الأكابر، ومن حمادة الحلواني إلى طاهر عبيد يا قلبي لا تحزن!
وقيل أيضا إن شلتنا اعتبرت المسئولة عن تدهور ابني العباسية الشرقية. ولما انتهت إلينا تلك الأنباء تساءل إسماعيل قدري ضاحكا: أنلام على خلق شاعر شعبي فريد وعمر خيام حديث؟!
أما صادق صفوان فقال مازحا أيضا: الحق أن العباسية الشرقية هي التي أفسدتكم بتقديمها الخمر والحشيش لكم في خان الخليلي والجبلاية، فويل لأولاد الناس الطيبين من أبناء الذوات!
Неизвестная страница