وفي تلك الأثناء اختفى من مجال صحبتنا الأقران الآخرون، واقتصر المجلس على خمستنا، أصبحنا من معالم المقهى، وفي العطلة الصيفية لا نتخلف عنه ليلة واحدة، ووقعنا في هوى النارجيلة وثملنا بنشوة الدخان، ونوعنا سهراتنا مساء كل خميس فأضفنا إلى السينما المسرح والصالة، وزودنا عشاءنا بالخمر أحيانا، بل عرف حمادة لف سيجارة الحشيش، وظل قشتمر أحب الأماكن إلينا بما هو المأوى الذي نخلو فيه إلى أنفسنا ونتبادل عواطف المودة، وقد بدأ منا ثلاثة - صادق وإسماعيل وطاهر - حياتهم العملية، أما حمادة فواصل حياته الجامعية الفاترة، وبدا صادق أسعدنا فقد حقق حلمه في الحب والعمل، وكم يسعده التنويه بنعمة ربنا عليه فهو يقول لدى كل مناسبة: الزواج نعمة الله الكبرى على عبده.
وفي الوقت المناسب أيضا بشرنا قائلا: دخلنا في متاعب الوحم السارة!
وأنبأ وجهه الصافي في الأيام التالية عن قلق طارئ كالماء الرائق الذي لا يخفي سرائره، أهو الوحم يا ترى؟ وصارحنا بهمه قائلا: حبها النهم توقف فجأة!
واستحوذت علينا حيرة بالغة حتى قال: أخبرني نفر من أهلها أن تلك حال عارضة وعابرة وأن لا داعي للقلق.
وعند ذاك قال له حمادة: نحن قوم لا علم لنا بهذه التجارب، فاسعد وحدك واقلق وحدك.
وإذا بطاهر يقتحم قلوبنا بحكايته، جاءنا ليلة مخطوف اللون ليقول لنا: وقعت الواقعة!
عرفنا بداهة ما يعني وتطلعنا إليه في إشفاق فقال: أعلنت الحرب.
لم يكن بقي بينه وبين والديه إلا الصمت، حتى شقيقتاه اللتان تزوجتا من دبلوماسيين بعثتا إليه برسالتين يحثانه فيهما على إرضاء أبيه. وتكمن أزمته الحقيقية في حبه والديه مع حرصه الكامل على استقلاله. ولم يعد يحتمل التأجيل ولا يقبل بالهرب، فمضى إليهما في الشرفة المطلة على الحديقة في الأصيل، وبدون مقدمات قال بصراحته المعهودة: إني أفكر جادا في الزواج.
لم يظهر أي رد فعل كما توقع، غاية ما في الأمر أن الباشا تساءل متهكما: هل توجد فتاة محترمة ترضى بفتى في وضعك؟
فقال بهدوء: وجدتها وهي جد راضية.
Неизвестная страница