وفي الحال تلاشت معارضة صفوان أفندي وست زهرانة، وضحكت زبيدة هانم وراحت تداعب الشاب قائلة: مبارك عليك يا عم صادق!
وانقلب لعب العيال إلى جد ونحن لا نصدق، استؤجر الدكان، وأمد الباشا صاحبنا برجل من دائرته، ينظم له الدكان ويتفق مع النجار المناسب ويمسك له دفاتره ويبصره بخفايا عمله، على حين عرفه الباشا بتجار الجملة من معارفه وضمنه عندهم، وقبل نهاية الصيف وافتتاح الجامعة جال صادق في دكانه مزهوا بين أرفف اصطفت فوقها المناديل والإشاربات والسجائر وأدوات الحلاقة والحياكة وصنوف الشوكولاتة والملبن واللب والسوادني، وكان علينا أن نتكيف مع الوضع الجديد وأن نوليه ما يستحق من جدية وإن بدا أول الأمر كاللعب أو التمثيل، نمر به، نتبادل الابتسام، نراه واقفا وراء الحاجز الخشبي، أو ملبيا طلبا، نرى زبائنه من الغلمان والبنات والنساء، وهو جاد تماما، حتى شاربه تركه ينمو، ومن حسن الحظ أنه لم يتعملق كشارب أبيه، ولكنه استقر فوق شفته العليا كشارب شارلي شابلن، وبعد إغلاق الدكان يلحق بنا في قشتمر، مهاجرا إلى دنيا الثقافة والسياسة. ويغبطه إسماعيل قدري على كثرة زبائنه من الجنس اللطيف فيعلق حمادة على ذلك بالمثل البلدي «يدي الحلق للي بلا ودان»، ويسأل باهتمام عن الربح فيقول: إني أسدد ديني للباشا أولا، ولكن يبقى لي ما لا يحلم به موظف شاب.
وما لبث أن قذفنا بالقنبلة الثانية عندما قال ذات ليلة: سأشرع في الزواج دون تأجيل.
لم نعجب هذه المرة لما نعرفه من تدينه وعفته، ووضح لآذاننا اللاهية صوت الزمن الغائب في زحمة الأحداث وتتابع الفصول، فبعضنا يجلسون في مدرجات الجامعة وأحدنا يتوثب لاستكمال دينه، وقرر صادق أن يعلن رغبته ثم يستمهل أسرته الجديدة حتى يقتصد قدرا مناسبا من المال، ويبدو أن إبراهيم أفندي الوالي لم يعجبه تحول الشاب من أفندي إلى خردواتي، ولكن صفوان أفندي قال له بكبرياء: ابني حاصل على البكالوريا، ألا تقرأ ما يكتب المفكرون عن الأعمال الحرة؟!
وجاءت موافقة إحسان صادقة وحاسمة وقاطعة، فأخذت كل أسرة من جانبها تستعد لليوم السعيد، وقال صفوان النادي لابنه: لم العجلة؟ كان الأوفق أن تنتظر حتى تسدد دينك، ثم تقتصد على مهل حتى تضمن لنفسك مسكنا مناسبا من جميع النواحي، ولا تنس أن إبراهيم أفندي الوالي رجل على قد حاله والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
ولكن صادق طمأن أباه إلى أن الأمور تسير سيرا حسنا، وعرفنا نحن سر العجلة أو سر اللهفة على اليوم الموعود، وقال حمادة ضاحكا: ستكون معركة حامية لا هوادة فيها وربنا يستر.
واستأجر صادق شقة من ثلاث حجرات في العمارة التي تتبعها دكانه، وباعت والدته حليها القديمة لتغطية المهر والشبكة، وعند ذاك قال رأفت باشا لصادق على مسمع من والديه: زبيدة اقترحت علي أن أنزل لك عن باقي الدين ولكنني رفضت، أريد أن تبني نفسك بجهدك لا بعون أي مخلوق.
ولكنه أهدى إليه أثاثا جميلا للصالة مكونا من كنبة وفوتيلين، وطاقما من الصيني وأدوات المطبخ، وفرشت الشقة بأثاث بسيط ولكنه طبعا جديد وذو رائحة خاصة عشعشت طويلا في حواس صادق.
وفي ليلة الدخلة جمعنا سرادق صغير بشارع أبو خودة، جلسنا بين المدعوين في صفوف متتابعة، ولفت نظرنا صفوان أفندي بجسمه الضئيل وشاربه العملاق، وعلى المنصة أطل علينا عبد اللطيف البنا وتخته وغنى لنا أغنيته الخفيفة السافرة:
ارخي الستارة اللي في ريحنا
Неизвестная страница