كانت هذه هي أمنيته الوحيدة. (10)
غادر مسكنه بسرعة دون أن ينظر في عيون طفليه، التي أطلت منها الدهشة والتعجب الشديد من حاله، لم يجب كذلك على أسئلة زوجته التي انهمرت فوق رأسه كقطرات المطر، وراحت تتسرب إلى مقبرة الذاكرة وتنبش فيها، واستقل عربة أجرة حملته إلى نفس المكان الذي وقف فيه قبل أسابيع على كورنيش النيل، كان وجوم المساء الشتوي يجلل المكان وما فيه، ويغطيه بغشاوة داكنة من السأم والاكتئاب والغيبوبة، وخيل إليه أن الغياب قد ابتلع كل ما هو حاضر أمام عينيه. حتى العابرين على الجسر والعشاق القليلين على السور الحجري المنخفض، وبائعي الترمس والذرة المشوية، والمصابيح المتوهجة وأكوام القمامة المتراكمة بروائحها الكريهة، لم تشعره إلا بالتوغل مع كل خطوة في نفق الغياب. أخذ يذرع الكورنيش جيئة وذهابا، ويمد بصره إلى البواخر السياحية العابرة ومراكب الصيادين الفقراء، في الهلاهيل التي تكشف عن عري أجسادهم النحيلة ولا تسترها، تمنى أن يجد مقهى يجلس فيه ويسكت مطارق الصداع الوحشي بفنجان من الشاي أو القهوة، وأذن الليل بالانتصاف ففكر في الرجوع حتى لا يتعرض للشبهات أو للأسئلة الخرساء التي تهدد بالانقضاض عليه، وخيل إليه لحظة ابتعاده عن الشاطئ أنه يسمع صوت الاستغاثة التي تشق صفحة الماء، تتلوها صرخات استغاثات مكتومة تخرج من جوف الأرض، وتنفذ من فتحات النوافذ في العمائر المطلة على الشاطئ، وتتصاعد من الأشجار الهامدة في الظلام، وألقى نظرة أخيرة على جسد النيل الراكد كبطن حوت أبدي يحتضر، فهالته حشود الأيدي التي تشق المياه الآسنة وهي تزحف وتتلوى وتتكاثر، كأيدي الغرقى أو الجنود المهزومين.
توقف في مكانه وعاودته الرعشة التي ترج جسده كالزلزال، وتساءل في همس تشوبه رنة السخرية: بمن يستغيثون وقد مات الضمير؟!
الزلزال1
كان من الضروري، بل من الحتمي، أن يكتب غريب محمد غريب هذا الخطاب إلى صديقه العزيز شفيق السيد، الذي لم يره منذ وقت طويل، الغريب في أمر غريب أنه لم يكتف بأن يوقع عليه باسمه، بل أضاف إليه أسماء أخرى كان صديقه أو بعض أصحابه ومعارفه يطلقونها عليه في ليالي السمر الطويلة، بينما تطل من عيني صديقه ومن عيون الأصحاب نظرات تلمع وتخبو، وتمتزج فيها السخرية بالحب والإشفاق: الحكيم والمسيح والظل الباهت والصوت الخافت، والبومة والعنكبوت والفقمة وأسماء وصفات أخرى لم يجد داعيا لذكرها، ووجه الضرورة التي دفعته لكتابة الخطاب أنه رأى صديقه الحبيب في الحلم، وأخذ يعاتبه ويجادله جدالا أشد مما فعل في لقائهما الأخير، الذي لا يذكر إن كان قد تم قبل أسابيع أو شهور أو سنين، وسنصرف النظر الآن عن هذا اللقاء الأخير وموعده البعيد أو القريب، ونقتصر على الإشارة الموجودة للجدل الذي اشتبكا فيه بالأفكار والكلمات، بأعنف مما يشتبك اليوم أبطال أفلام العنف والكاراتيه وغيره من فنون الصراع، أكد غريب لصديقه أن الزلزال قادم لا شك عنده في ذلك، وشرح الأسباب والمبررات شرحا مستفيضا سنجده يكرره في خطابه؛ لذلك ينبغي علينا أن نبدأ بقراءة الخطاب نفسه، قبل أن نعرف شيئا عن مصيره:
لا أملك إلا أن أكتب إليك يا شفيق بعد أن تعذر علي لقاؤك والاتصال بك، أصبح هذا أمرا حتميا بعد أن صور لي الوهم الذي ظللت أجتره حتى كاد أن يبلغ مبلغ اليقين - أنك غاضب علي أو في نفسك شيء مني - أجل أجل، منذ تلك الليلة التي تحدثنا فيها عن الزلزال والكوارث والبراكين، قلت إن الموت قادم لا مفر منه، وكل الدلائل تؤكد أننا سنلقى مصير الفيران التي تهرب من السفينة الغارقة لتغرق في قاع البحر، أو سنموت ميتة النائمين الذين يدخل عليهم اللصوص في الليل ويذبحونهم بالسكاكين، صرخت بأن الزلزال قادم، وأنني أحس بعلاماته ونذره وإشاراته، وإذا كان الموت هو المصير المحتوم فلنمت مفتوحي الأعين بشرف وكبرياء، ضحكت طويلا واتهمتني بالرومانسية المريضة والتمسح بالمتنبي وعداوة البشر، وكأن الزلزال الذي روع مدينتنا الكبرى وبعض المدن الصغيرة والقرى البائسة لم يكفني، فراح خيالي السقيم يتوهم أفظع ألوان الدمار، أكدت لك، وأنت تنظر إلي مذهولا لأنني رفعت صوتي عاليا، وضربت مائدة العشاء الذي دعوتني إليه بكفي ضربة مدوية، كيف أصدق أن صديقي لا يفهمني؟ أنا أقصد الزلزال الآخر، الزلزال الذي يرج العقول لا الأجسام، يهز الوعي النائم لا البيوت الآيلة للسقوط، يخرج المخلصين والصادقين من تحت رماد الجحود والإهمال والتجاهل، حتى الكذابين والأدعياء والأبطال الجوف وسائر المعذبين في الأرض - كما تعودت أن تسميهم - لا أتمنى أن تسقط على رءوسهم ذرة تراب ولا غبار واحدة - إنه زلزال آخر يا صديقي - قلت وأنت تلوي فمك بامتعاض وتنفث دخان سيجارتك في وجهي: نريد النور والأمل ونريد البناء والعمل، بينما تتكلم أنت وغيرك عن الزلزال؟ وضعت وجهي بين كفي لأكتم صوتي الذي ارتفع فجأة: ومن منا لا يريد النور والأمل والإنسان الجديد؟ من منا لا يعمل له ؟ هل عشنا وشقينا إلا من أجله؟ وكيف تنتظر أن يأتي بغير زلزال؟ لنختلف حول طبيعته، لكن كيف نختلف حول ضرورته؟ سكت وأدرت وجهك للحائط ورحت تحدق في لوحة راهب بوذي مستغرق في التأمل والصمت.
رحت أؤكد لك أن الزلزال قادم لا محالة، وأخذت أتلو عليك الحجج والبراهين، كأي محام يرفع صوته أمام قضاة مصابين بالصمم والخرس والعمى: عندما تتربع الذئاب على عروش الغابة، وتصبح الأسود طعاما للنمل والذباب والضباع، فلا بد أن يحدث الزلزال. - وعندما يعظ اللص بالأمانة، ويمتد الفاجر الفضيلة، ويدعو الخائن إلى الوفاء، ويمجد القاتل البراءة والشرف، ويثرثر الكذاب عن الصدق، والمزور عن النزاهة، ويصبح الكل عدوا للكل والجميع مسلطين على الجميع، والكلاب تتصارع على الغنيمة التعسة العاجزة، فكيف لا يأتي الزلزال؟! - وحين يبشر الجراد بالخضرة والربيع.
ويرتدي المسخ زي البطل والقديس، ويخطب الأبكم ويغني الأخرس، وتسيل أنهار العلم والحكمة من أفواه الجهلاء والحمقى والبلهاء، فحتم أن يحدث الزلزال.
وكلما عم الضجيج واستشرت الضوضاء حتى صمت الآذان وعطلت العقول، وجعلت الأعلى صوتا هو السيد المسموع، ومن لا يظهر في الإعلان والإعلام فهو غير موجود، هل تتوقع نبوءة أصدق على اقتراب الزلزال؟ - وعندما تنعق الغربان وتنق الضفادع وتنهق الحمير، ويهلل السفهاء ويصفقون ويهتفون متشنجين للفن الجديد والنغم الجديد. - وبعد أن أخذ المارد الأعمى يحطم مصابيح العقل، ويطفئ منارات الوعي، ويدمر ويكفر ويفجر، وهو يسوق الملايين إلى كهف الماضي الذي لن يعود، ويضع أقنعة الظلام على وجه المستقبل الموعود، ويهدد إرادة التغيير بالذبح والخنق والحرق والتصفية، فهل تنتظر ألا يسقط البيت وتنتفض الأرض والسماء بالزلزال؟ - وعندما تنكفئ البديهيات على وجوهها في الوحل، ويسحلها الشطار الأوغاد في الشوارع والحواري والأسواق، بينما تطل عيون الآخرين من النوافذ وتضحك في شماتة، وهي تجهز المقبرة الجماعية لأصحاب الكهف والرقيم، فهل يمكن أن يتأخر الزلزال؟ - وأخيرا حين يغيب العصفور عن زيارة السجين الوحيد، فيفتقد وقفته على حافة الكوة الضيقة في زنزانته، ويأكله الجوع لحبات الأمل التي كان يلقيها إليه منقاره الذهبي، ألا ينبئ كل هذا بزحف الزلزال الذي يروع السجن بكل من فيه؟ ألا يدفعك للتأهب والاستعداد بدلا من الضحك والسخرية والتشكك؟!
آه يا صديقي: اكتشفت أنني أكلم نفسي كالعادة ووجهي إلى الجدار، كأني محكوم عليه بنوع جديد من أحكام الإعدام، هو عدم التوقف عن الكلام والكلام والكلام، كنت قد غادرت الحجرة التي جلسنا فيها للسمر والعشاء، وكان الراهب البوذي لا يزال جالسا القرفصاء، مسترخي الذراعين واليدين على ركبتيه، رافضا النظر إلي لانشغاله بالتأمل في العدم الذي احتواه معه، ثم رجعت بعد لحظات طالت كأنها الدهور، وحاصرني فيها الحرج والغضب والندم والاختناق، نهضت واقفا للانصراف، بينما كنت تضع صينية الشاي على المائدة، فقلت رافعا حاجبيك من الدهشة: معذرة يا غريب.
Неизвестная страница