الحاجة إذا نادت عليك في حاجة أو محتاجة تقولي لها: يا ستي الحاجة.
والحاج ربنا يرزقه طول العمر ولا يحرمنا منه تكوني تحت رجليه: نعم يا سيدي الحاج، حاضر يا سيدي الحاج. •••
فتحت لهما الحاجة الباب، فظهر وجهها الهادئ المستدير يتلفع في شال أبيض نقي، الله يسلم عمرك يا ستي الحاجة، زينب تقدمت هي الأخرى وباست يد الحاجة ورفعت يدها إلى جبينها كما فعلت أمها وخفضت عينيها إلى الأرض.
وعندما رن في أذنيها صوت سميرة تنادي عليها - وكانت تلعب على السلالم الرخامية - تهلل وجهها عن ابتسامة واسعة وجرت نحوها في سرعة الريح وهي تهتف: حاضر يا ستي.
أسوار المدينة
أنا رجل ضائع في المدينة، شهادة ميلادي تؤكد أنني موجود، ثيابي رثة، طعامي قليل ، شعر رأسي أشعث، وحذائي متمزق من قديم، أما مدينتنا فهي عظيمة، واسعة الأرجاء، يحدها من الشمال جبل هائل مرتفع، ومن الشرق صحراء ممتدة إلى غير نهاية، ويجري في وسطها نهر لطيف محبوب بين صفين من أشجار النخيل، وما أكثر ما تراءت مدينتنا لعيني تنينا ضخما، ينفث الدخان من فمه، وعلى رأسه تطوف سحابات شتاء قاتمة. ربما يرجع هذا إلى أن عيني يأكلها الرمد من زمن بعيد، فلا تميزان الرؤى والمشاهد، كل ما أستطيع أن أؤكده أنني كلما سرت في شوارع مدينتنا استطالت أمامي أجساد الناس، وتضخمت أبعادها، واختلطت علي حدودها، فلا أكاد أعرف إن كانوا بشرا، وتكاد عيناي تدمعان.
مدينتنا مدينة عظيمة كما أسلفت، أعظم ما فيها هذا السور الهائل المنيع الذي لا يذكر اسمها إلا مقترنا به، يحدها من الشمال والجنوب، ومن الشرق والغرب، وتاريخها مذكور في الكتب، مدون في الأسفار الكبيرة، محفور في الآثار والصخور، وفي رءوس حكمائنا الشيوخ، وإن نسينا في بعض الأحيان أن مدينتنا قد هاجمتها جيوش أعداء كثيرين، على مر الدهور، فلنا العذر في ذلك، فذاكرة أمثالي من رجال أمتنا ضعيفة، وكيف تعلق بأذهاننا تفاصيل لا حصر لها؟ كان من أعدائنا من يلبسون العمائم الكبيرة والبيضاء ويحملون السيوف في أيديهم، ويقاتلون أجدادنا كالوحوش، وكان منهم من يلبسون القبعات فوق رءوسهم، ويتطاير الشرر من عيونهم الخضراء، ويرطنون بلسان غريب على أفهامنا، ولكنه رقيق، لن نستطيع أن نذكر جميع أعدائنا، كل ما نذكره هو هذا السور الهائل المنيع حول مدينتنا، تقول عجائزنا المخرفات إنهم قد بنوه منذ مئات السنين، ويقول حكماؤنا ذوو اللحى الطويلة، والرءوس الصلعاء من أثر الحكمة، إنه موجود على حاله منذ الأزل، ونحن بينهم حائرون: فتحنا أعيننا فرأينا هذا السور الهائل المنيع يطوق مدينتنا، من الشمال والجنوب ومن الشرق والغرب، يكاد يخنق أنفسنا، ويكاد الحزن يغلبنا فنعتقد أننا سنموت ونتركه وراءنا.
حكاية هذا السور العظيم لا تبرح رءوسنا ولا شفاهنا، في كل بيت، في كل منتدى ، في كل شارع، في كل حي - نجد من يذكر السور وهو خائف، وأطرافه ترتعد - جدتي قالت لي - أيام أن كانت تروي لي الحواديت في ليالي الشتاء - إن هذا السور قد بناه حاكم عظيم، كأنه مارد من الجان بساعديه الغليظين.
وأمي حذرتني - وهي على فراش الموت - من أن أقربه، لكنني بقيت حائرا، والشك يطل من عيني، حرصت على أن أجمع كل خبر، وأن ألتقي بكل من أتوسم فيه المعرفة بنبأ السور العظيم، وكان أن جمعت أنباء طيبة، وإن كنت أعجب من اضطرابها، ومن تناقضها في أكثر الأحيان، فحراسنا الأشداء يقولون: إنه يحمي مدينتنا من غارة الأعداء - وهم كثيرون - والفلاحون الأتقياء يؤكدون في لهجة صادقة أنه يصد عنا رياح الشمال، التي كانت تهلك فيما مضى محاصيلنا، وتؤذي زرعنا ونباتنا، أما الحكماء فهم يقولون - وعيونهم لا تفتأ تتأمل الكتب القديمة الصفراء، وأصابعهم تتخلل لحاهم البيضاء - إن هذا السور يعصمنا من الجهل الذي عم البلاد، ومن وباء استشرى في سائر الأمم، وإننا لذلك سنبقى حكماء عاقلين ما بقي لنا هذا البناء العظيم.
هذا السور قد صحب أعمارنا، وحفظ ذكرياتنا، فنحن نخشى عليه من أن ينهدم منه حجر، أو تفتح فيه ثغرة، أجدادنا من المهندسين صبوا فيه عصارة أفكارهم، وسهروا الليالي الطويلة وهم يعدون رسومه، ويبدعون تصميمه، ويقيمون أعمدته وأبهاءه، وشبابنا من البنائين والصناع والعمال قد وضعوا فيه جهد أعضائهم وأعصابهم ودمائهم، لبثوا عشرات السنين يحفرون، ويردمون، ويحملون الطوب والحجارة فوق أكتافهم، ويتحملون لفحات شمسنا الخالدة فوق رءوسهم، مات منهم كثيرون، واختلطت عظامهم بالرماد والجير والأسمنت، وأطفالنا لعبوا حوله، ولمسوا أحجاره، وحملوا في رءوسهم الصغيرة أعز الذكريات، والعشاق لم ينسوا أن يصحبوا معشوقاتهم إلى جانب السور العظيم، فاستندوا معهم على جدرانه، وغازلوهن واعتصروا أجسادهن من الحب، ورقصوا، ورجعوا في آخر الليل وقد أضناهم العناق والضم والتقبيل، أما عجائزنا من الشيوخ والنساء فقد كان لهم في جوار السور أولياء صالحون، وقديسون طيبون، يزورونهم بين حين وحين، ويؤدون فروض العبادة في أضرحتهم، ويلثمون أطراف أكفانهم، ويرجعون إلى بيوتهم راضين مستبشرين، ولكن حدث منذ عهد قريب ما جعلنا نشفق على سورنا العظيم من أن يصيبه أذى، فقد أسفر صباح يوم سار فيه المنادي - وهو رجل أعمى يقوده صبي حافي القدمين - في شوارع المدينة، وهو يلقي بالنبأ العظيم: «لقد وجدت أمس في جدار السور ثغرة كبيرة، الحراس يبحثون عن اللصوص.» سرى النبأ في المدينة مسرى الرعب، من هم هؤلاء اللصوص؟ من أين جاءوا؟ كيف واتتهم الجرأة على أن يتسللوا إلى مدينتنا أو يهربوا منها؟ وسرعان ما تم التدبير، واحتاط حراسنا الأشداء لكل الظروف.
Неизвестная страница