لم أصدق أن مثل هذا البيت خال من الماء، ونظرت حولي لم أجد زيرا ولا قلة، فسألت: تشربين؟ من أين؟
قالت مؤكدة: من البير!
تلفت مرة أخرى فلم أجد البئر الذي تتحدث عنه.
ثم سمعتها تقول: لا لا، البئر هناك.
ورأيت يدها تشير إلى بعيد، ربما إلى الجسر القائم على الترعة، أو إلى المدرسة، أو ما وراء البلد كله، ولم أستطع أن أتذكر وجود بئر في أي مكان، وسكت فعادت تقول في هدوء: عاوزين يسموني، هات لي أشرب يا حبيبي، عطشانة.
وظلت تكرر كلمة عطشانة وأنا أتطلع إليها في حيرة، وفجأة فتح باب الشرفة وأطل وجه الرجل النحيل الذي رأيته يدخل البيت منذ أيام، وذراعه تمتد إليها وتجذبها بشدة وهي تهتف عطشانة، عطشانة، وباب الشرفة يغلق في عنف، ومرت لحظات قبل أن يفتح باب الشرفة من جديد، ويطل منه وجه الرجل النحيل الصامت، مال بجسمه على السور وتلفت في كل اتجاه، ثم أشار إلي يائسا وقال: روح يا شاطر، روح!
فلما وجدني لا أزال واقفا في مكاني وبدا عليه الاطمئنان؛ لأنه لم يصادف أحدا يمر في الشارع قال: روح يا ابني ، روح سيبوا الناس في حالها!
لم أخبر أحدا بما حدث، طويت صدري على السر الذي ظننت أنه ملكي وحدي، بالطبع لم يغب عني أن كثيرين من أهل بلدتنا قد سمعوا عن هذه المرأة، وربما رآها بعضهم في الشرفة كما رأيتها، أو سمعها تناديه أو تكلم نفسها أو تشير إليه، لكنني كنت على يقين بيني وبين نفسي بأنها لم تطلب من أحد سواي أن يسقيها، وحتى لو كانت قد طلبت هذا من أحد غيري، لما كان في الأمر شيء، فلم يكن السر كله في أنها عطشانة، فهذا شيء قد يعرفه معظم الناس، وقد تعرفه أمي وأبي وأخي الأكبر أيضا، وإن لم يحدثوني عنه أبدا، ولكن مصدر افتخاري وسعادتي - أجل كانت سعادة لا أدري كيف لم أخجل منها - هو يقيني بأنها لم تكلم أحدا غيري عن البئر الذي أرادت أن تشرب منه، ولم تكلف أحدا غيري بأن يسقيها منه.
أحسست من ذلك اليوم بأنني مكلفة بمهمة حقيقية، لا أدري حتى الآن ما الذي جعلني أشعر بعبئها الثقيل فوق كتفي، ولا أدري إن كنت قد تصورت أنني سأجد ذلك البئر البعيد في أي مكان، بل ولا فكرت إن وجدته كيف أوصل إليها الماء الذي آتي لها به، كل ما أذكره أنني قبلت أن أقوم بهذه المهمة، لا بل تحمست لها وشعرت بضرورتها وجدواها، هل غاب عني أن المرأة مجنونة؟ هل كنت أجهل أن ما تقوله مجنونة عن بئر مجهولة لا يزيد عن كونه جنونا في جنون؟ بالطبع لم يغب هذا كله عني، لكنني كنت أعتقد لسبب لا أدريه أنني مكلف بالبحث عن هذه البئر، كما كنت متأكدا أنني لا بد أن أجده بمعجزة من المعجزات، ومضيت أبحث عن البئر في كل مكان، في البداية لم أكن أسأل أحدا بل رحت أفتش في الاتجاه الذي أشارت إليه، وراء المدرسة وعند الجسر، في داخل العزبة الصغيرة التي كانت تقع بالقرب من مدرستنا، وتسكنها جماعات من عمال التراحيل والمداحين والشحاذين، ومن ليست لهم حرفة محددة، وكنت في بعض الأحيان أتعلل بأي سبب لأخرج من بيتنا عند الغروب، وأمضي إلى ما وراء الجسر الذي تعبره مواكب الفلاحين والجاموس والحمير والأطفال والنساء العائدين من الحقول، كنت أحتمل نظرات الجميع المتطفلة إلي، وأداري نفسي إذا لمحت فلاحا يعرف أبي، وأقول لمن يسألني إنني أشم الهواء أو أنتظر أحد أصحابي أو أذاكر في الخلاء، وكان أغلبهم يصدقني وينصحني ألا أتمشى في الخلاء، أو يحذرني من الكلاب والذئاب وأولاد الحرام، وبعضهم يشدني غصبا ويركبني على حماره ويعود بي إلى البلد، صحيح أنني كنت في بعض الأحيان أسأل أحدهم عن البئر، فإن سألني عن مكانه لم أجد ما أرد به سوى ما قالته لي المرأة: البئر اللي هناك!
فيضحك مني أو يقسم بأنه لم يره في حياته، أو ينكر وجود آبار في بلدنا على الإطلاق، لكنني كنت على العموم أكتم سره في نفسي، وأواصل البحث عنه حتى تحت قدمي، ويكاد يخالجني إلهام بأن الأرض ستنشق عنه ذات يوم، وأنني سأملأ أقرب وعاء تصل إليه يدي، أو حتى أملأ به كفي وأجري إلى المرأة المسكينة، وأصرخ ولو في عز الليل: يا عطشانة اشربي من البئر!
Неизвестная страница