كان ذلك هو موضوع الحديث في مقالتي التي عنوانها «هيا إلى اقتحام العقبة»، والذي لم أتنازل فيه عن التمسك بماضينا قيد شعرة، ولو فعلت ذلك لكنت في عداد المجانين، لكن السؤال هو: كيف؟ وكان جوابي هو أن نتشرب تراثنا تشربا يحوله في قلوبنا ونفوسنا وعقولنا إلى «ضمير» نقيمه على أنفسنا من الداخل رقيبا وحسيبا، كما هي حال الضمير دائما مع الإنسان، لكن ليس من المعقول أن يظل الماضي بحذافيره قائما أمام أبصارنا لنكون في حياتنا نسخة مطبوعة. وقلت في ذلك المقال إنه ليس أقتل لنا ولا أقتل للنموذج المقام ذاته من أن نجعل أنفسنا نسخة مكررة. أما وجودنا نحن فينمحي إذ يصبح زائدة لا إضافة عنده يضيفها، وأما النموذج المقام، فإن جدته تذهب عنه بكثرة تكراره، وإلا لاكتفى التاريخ كله بأصل واحد دون أن يجيء له من يكرره.
فثارت علي ثائرة ناقد غاضب، وقذفني بوابل من الاتهامات التي طالما شهدنا أمثالها مئات المرات بعد مئات، وباتت في مسامعنا كليشيهات محفوظة عن ظهر قلب، حتى لكأنها تباع محنطة معلبة في دكاكين العطارة، وما على الناقد إلا أن يشتري وهو في طريقه إلى بيته علبة أو علبتين، يسكب ما فيهما على الورق، ثم ينام ليستريح، فلا المشكلة عولجت، ولا هو فكر في حلها، ولا المتهم قد وجد ما يتطهر به من خطيئته.
فليس أسهل على الناقد الثائر من أن يقول إن الرؤية التي تريدنا على أن ننظر إلى الماضي نظرتنا إلى تاريخ، أو إلى سيرة، أو إلى عملية النماء في الكائن الحي، تتلاحق فيها حلقات النمو ، بحيث تجيء آخر الحلقات ظهورا في الزمن، مستوعبة استيعابا حيويا للحلقة الأولى، دون أن تكون الأخيرة تكرارا للأولى، أقول إنه ليس أسهل على الناقد الثائر الغاضب، من أن يتهم مثل هذه الرؤية الحيوية بأنها تتنكر لمبادئنا وقيمنا ومثلنا العليا، مع أن ذلك الناقد الثائر الغاضب لو تمهل وتأمل هذه المعاني نفسها التي ذكرها: «مبادئ» و«قيم» و«مثل عليا» لوجدها جميعا - بحكم تعريفها - تعطيك «الاتجاه»، ولا تملي عليك كل خطوة على الطريق، فكأنما هي بمثابة من يقول لمن ضل الطريق في الفلاة: اجعل وجهتك نحو الجنوب الشرقي، وأما ماذا أصنع وكيف أتصرف إذا ما سرت في هذا الاتجاه ووجدت حيوانا مفترسا، أو وجدت بركة ماء، أو وجدت سدا من شجيرات وأعشاب، فهذه كلها صعاب الطريق التي يحلها المسافر بما توجبه عليه ضرورة الموقف، وطالما هو ملتزم بالاتجاه نحو الجنوب الشرقي، فهو ملتزم بالمبادئ وبالقيم وبالمثل العليا.
إني لأقولها كلمة صدق يا سيدي، بأنه لن يجديك شيئا، كلا ولن يجدينا أن تتلفع بدثارك مطمئنا مستريحا، فتغفو عيناك في نعاس، ثم تصحو فجأة لتجد شفتيك تتمتمان ألف مرة بهذه الألفاظ الثلاثة: مبادئنا مبادئنا ... قيمنا قيمنا ... مثلنا العليا مثلنا العليا ... فالدواء لا يشفي علة لمريض إذا ظل مغلقا في زجاجته، فالمريض طريح فراش، وزجاجة الدواء هناك على المنضدة، وكذلك مبادئنا وقيمنا ومثلنا العليا لا بد لها أن تنتقل من كونها كلمات، لتتجسد عملا مرئيا منتجا، نراه في زارع الأرض وفي عامل المصنع. وإنه لحق ما قيل من أن المبادئ والقيم والمثل العليا، لن تبلغ غاياتها في حياة الإنسان، إلا إذا غاصت في نفسه إلى عمقها، وتحولت عنده من حالة الوعي بها إلى حالة اللاوعي، بحيث تفعل فعلها فيه، وكأنها جزء لا يتجزأ من فطرته، وعندئذ لا تسمع مثل ذلك الإنسان يقولها ألفاظا، ولكنك تراه في أوجه نشاطه يحياها سلوكا.
إنه لن يكون لنا إحساس حي بوجودنا، وقدرة على المشاركة الإيجابية في حضارة عصرنا، إلا إذا استطاع حاضرنا أن يبتلع ماضينا، ابتلاعا ينقل ذلك الماضي من حالة كونه تحفة نتفرج عليها، وعبارات نرددها، إلى حالة كونه غذاء للدماء في شرايينها، أي أن ينتقل الماضي من خارجنا إلى داخلنا ليصبح فينا ضميرا حاكما وموجها لسلوكنا، لا بمحاكاتنا لما قد كان محاكاة حرفية كما يقولون، بل بإبداعنا للجديد الذي يتناسب مع عصرنا، كما كان الأسلاف يبدعون ما كان متناسبا مع عصرهم.
والإسلام من حيث هو دين، له أركانه الخمسة التي يعرفها كل مسلم، ويلتزمها كل مسلم، ومن حيث هو شريعة له أحكامه التي يفصلها لنا علماء الفقه، فنعتز بها أحكاما تضبط مناشط حياتنا. لكننا حين نتعرض لمسألة الحاضر والماضي، فإنما نتعرض للوجه الحضاري الذي ينبثق كما تنبثق الزهرة من غصنها، ولم يقل أحد، بل ولا يجرؤ أحد على القول، بأن المسلم لا يسعه بحكم إسلامه إلا أن يتمخض عن زهرة حضارية واحدة تظل تتكرر بذاتها عصرا بعد عصر، وإقليما بعد إقليم، فالعلم صورته واحدة، والفن صورته واحدة، والعمارة صورتها واحدة، والأدب صورته واحدة، وأسواق التجارة صورتها واحدة، ومصانع النسيج صورتها واحدة.
والذي أقوله، وأعيد قوله، هو أننا إذا غيرنا هذه الأوجه الحضارية كثيرا أو قليلا، لم نزد في ذلك على أننا نقلنا عن الغرب منتجاتهم، ولم نشارك بالإضافة التي قد تتميز بطابعنا الخاص إذا نحن استطعنا الإضافة. والسؤال إذن هو: ولماذا عجزنا عن الإضافة؟ والجواب هو: إننا لم نتشرب روح عصرنا بعد، وشغلنا أنفسنا بضروب من القول هي أقرب إلى الوخم المتثائب عند من يشرف على نعاس، فهل أبى الإسلام على المؤمنين فيما مضى، وهل يأبى الآن، وهل سيأبى عليهم يوما إلى آخر الدهر أن يخرجوا من أنفسهم زهرات حضارية مختلفة اللون والعطر كلما اختلفت حولهم ظروف العيش؟ ألا يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام في حديث شريف له، ما معناه أن ما يراه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن؟ تأملوا بإمعان أبعاد المعنى في هذه العبارة، فكأنها تقول إنه إذا أجمع رأي المسلمين في عصر ما على أن خيرهم يتحقق بصورة معينة من الفكر والعمل ، وكانت تلك الصورة هي المقبولة عند الله سبحانه، وهل نقول اليوم أكثر من هذا؟
عندما طالعت رسالة الناقد الغاضب، لم يفزعني اختلاف الرأي، فاختلاف الرأي في أمثال هذه المسائل أمر لا بد منه في حياة فكرية صحيحة قوية، لكن الذي أفزعني حقا اختلاف اللغة - إذا جاز لنا هذا القول - فسيادته لم يفكر بمقدار ما رفع السوط مهددا بالويل والدمار. ونحن إذا تخاطبنا بلغات مختلفة على هذا النحو المخيف، فأخشى أن يصيبنا ما أصاب أهل بابل، الذين استطاعوا حين كانت لهم لغة واحدة، أن يتعاونوا على بناء مدينتهم، والارتفاع ببرجها نحو السماء، وكانوا بذلك أمة واحدة، لكنهم لم يلبثوا أن اختلفت لغاتهم، و«تبلبل» لسانهم، فتفككوا وكفوا عن البنيان، ومن هنا أطلق على مدينتهم وبرجها اسم بابل.
نمل ونحل
النملة تدخر القوت لفصل الشتاء، وهي إذ تخزن القوت الذي جمعته، تتركه كما وجدته، فحبة القمح تظل حبة قمح، وقطعة السكر تبقى قطعة سكر، فكل ما على النملة أن تؤديه في هذا السبيل، هو أن تجمع ما تصادفه صالحا لطعامها، وترصه في بيتها رصا على مستوى الأرض، أو تكومه بعضه فوق بعض، أو لست أدري كيف.
Неизвестная страница