نعم، كان الذي رأته الأم الفاضلة في بنيها من ازدواجية المقاييس الخلقية، إنما هو البذرة الأولى التي يغلب أن تنمو معهم شجرتها وتتفرع، كلما كبروا وازدادوا خبرة، بما أصبحت حياتنا الاجتماعية تتطلبه من «لباقة»؛ إي والله فقد سمعت كثيرين يسمون ذلك النفاق البشع الجبان «لباقة».
فأين عسانا واجدين طوق النجاة؟ إنه يلتمس في مصادر كثيرة، وأولها التربية الدينية؛ إذ ماذا يكون «الدين» إن لم يكن قبل أي شيء آخر، نظاما خلقيا يرسم للمتدين طرائق السلوك الصحيح، الذي يجعل منه إنسانا كما أراد الله جل وعلا للإنسان أن يكون؟ لكننا إذ نلجأ إلى الدين لنجعله محورا أساسيا في تربية أبنائنا وبناتنا، نضغط ضغطا شديدا على تفصيلات «الشعائر» لنبرزها، وبالطبع لم يكن ذلك ليعاب في شيء، فإلمام المؤمن بشعائر دينه، أمر واجب، وإلا فكيف يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، إذا لم يكن على بينة بما يؤدي في كل مناسبة من شعائر. لكن موضع المؤاخذة هو أن نستنفد جهدنا التعليمي في الشعائر، ثم نقف عند هذا الحد، فينتج لنا أطفال كأبناء الأم الفاضلة التي أرسلت تشكو أبناءها، فالمخادعة بدأت عندهم في أدائهم لتلك الشعائر نفسها، ومن التي يخدعونها؟ هي الأم، فماذا هم صانعون إذا ما كبروا ودخلوا مع الناس في معاملات ليست «شعائر» الدين، إنما هي تجارة وصناعة وأعمال في دواوين الحكومة؟ كلا، ولا التي سيتعاملون معها يومئذ هي الأم، بل هم غرباء لن يربطهم بهم إلا روابط السوق.
وكان ذلك هو حافزي إلى كتابة مقالي «تربية الضمير الديني»، وتسألني الأم الفاضلة: كيف يكون ذلك؟ فأقول - والله المستعان: لنجعل مثلنا الذي نوضح به هو فريضة الصلاة؛ لأن ما استبشعته الأم في أبنائها، كان سلوكهم غير المستقيم أثناء الوضوء استعدادا للصلاة، فالوضوء هنا هو فاتحة الشعائر التي تؤدى لإقامة الصلاة، وجاءت خديعة الأطفال في وضوئهم دليلا على أنهم لم يروا في الموقف ما يردعهم ردعا ينبعث من دخيلة نفوسهم، وإذن فلو كنت مربيا لهؤلاء الأطفال، لأرجأت الاهتمام الضاغط بوجوب مراعاة التفصيلات في شعيرة الوضوء، إلى ما «بعد» إثارة انتباههم أولا إلى ما هم ملاقونه داخل الصلاة نفسها، فالشعيرة ضرورية، لكنها كضرورة الوسيلة اللازمة للقيام برحلة مطلوبة، كالسيارة أو القطار أو ما شئت من وسيلة، ولكن الوسيلة على ضرورتها ووجوبها، إنما تستمد ذلك الوجوب وهذه الضرورة من أنها هي الدهليز الذي يوصل سالكها إلى الغاية المنشودة. والغاية هنا هي «الصلاة».
لو كنت مربيا لهؤلاء الأطفال، ومستهدفا إقامة «ضمير ديني» في نفوسهم لبدأت بإدخالهم في الحالة الوجدانية التي يكون عليها المصلي، قائلا لهم شيئا كهذا: إن مقيم الصلاة عندما يرفع يديه إلى أذنيه قائلا: الله أكبر، فهو بمثابة من فتح بابا ليدخل منه إلى عالم آخر غير العالم الذي يحيط به ويعيش فيه، إنه هناك ملاق ربه ومخاطبه، ولذلك يحاول المصلي أثناء صلاته أن يصم أذنيه - ما استطاع - فلا يسمع صوتا، ويغض من بصره - ما استطاع أيضا - فلا يرى شيئا، بل إن من المأثور عن كبار العابدين، أنهم أثناء الصلاة لم يكونوا يحسون شيئا على جلود أبدانهم. ويروى عن أحد هؤلاء أريد له أن تبتر له ساق مريضة، فأوصى بأن يتم ذلك وهو يصلي، موقنا بأن إحساسه بما يحدث لبدنه سيضعف إلى حده الأدنى، فالمصلي مستغرق بكيانه كله ووجوده كله فيمن هو في حضرته إبان الصلاة.
إذن فقد كانت قولة المصلي «الله أكبر» عندما هم بإقامة الصلاة، بمثابة خروجه من عالم الأشياء والحاجات والمنافع، ودخوله في عالم آخر لا يعرف فيه إلا روحا تخشع لخالقها، لكن هذه التكبيرة نفسها: «الله أكبر» التي نقلته من عالم الفناء إلى عالم الخلود، من عالم يقاس بدقائق الزمن وثوانيه، إلى عالم لا يعرف الزمن، أقول إن هذه التكبيرة نفسها - بالإضافة إلى كونها مؤذنة بالنقلة الكبرى بين العالمين - إنما هي في ذاتها موضع للوقوف المتأمل، عند من يريد لصلاته أن تكون «حياة»، ولا يقتصر أمرها على حركات الجسم ركوعا وسجودا، وكأن القائم بالصلاة يستهدف رياضة بدنية، «الله أكبر» من كل كبير، فإذا كنت قد دخلت صلاتي شاعرا بالصغر قياسا إلى أصحاب الجبروت الطاغي، فسأخرج من صلاتي وقد لاقيت من هو أكبر، ولن أخشى بعد ذلك بأس الطغاة. إنني أنا - هكذا يقول المصلي بعد أدائه لصلاته - إنني أنا الصغير الكبير معا، كنت صغيرا أمام الله صغر الهباءة في هذا الكون الفسيح، لكنني خرجت من صلاتي كبيرا كأكبر من ألاقيه بين البشر. لقد كنت أنافق السلطان طلبا لعونه وردا لعدوانه، فخرجت من صلاتي أجهر بالحق كما أراه، لا أنافق فيه أحدا؛ لأنني تعلمت من وقوفي في الحضرة الإلهية أن المعين واحد هو الله، وأن الذي يرد عني العدوان واحد هو الله، لقد خشعت لله ركوعا وسجودا لأنه ربي، وكنت مع كل ركعة وسجدة أكرر «الله أكبر» لترسخ معانيها في نفسي، وتصبح في حياتي ما تكون «البوصلة» في توجيه السفينة توجيها صحيحا، أو قل إنني أكرر «الله أكبر» كلما خشعت لله، ليكون مضمونها الغني هو بعد ذلك «ضميري» الذي يهديني سواء السبيل.
وإني لأسأل الأم الشاكية من مخادعة أبنائها لها في شعائر الوضوء، هل كانوا يخادعون لو «عرفوا» إلى أي عالم هم داخلون أثناء الصلاة؟ ولقد وضعت كلمة «عرفوا» بين الحواصر لتستوقف النظر، فمفتاح الرشاد هو أن نعرف، أن يعرف مقيم الصلاة ما صلاته، وأن يعرف صائم رمضان ما صومه، وبعدئذ يكاد يستحيل على من «يعرف» أن يقترف الإثم الذي هو «خطأ»؛ لأن من يعرف لا يخطئ. ولشد ما كانت دهشتي التي بلغت معي حد الذهول، حين سمعت من أستاذ فاضل يقول في وسائل الإعلام أكثر من مرة، إن العابد لا يسأل عن عبادته، وإلا لم تعد عبادة، فالعبادة كما قال - طاعة - لا يسأل صاحبها لماذا، ولو شاء الله للأستاذ صوابا، لهداه أن يقول: إن العابد لا يسأل عن عبادته ليغير منها شيئا، بل إنه يسأل «الفهم»، والفرق كبير بين الحالتين، فمقيم الصلاة إذا سأل ليفهم سر التكبير في أول الصلاة، وعند كل ركوع وسجود وقيام لزاده هذا الفهم إمعانا في مقومات الصلاة من قول ومن حركة، فتصبح الصلاة إحدى الوسائل الفعالة في تربية الضمير الديني، وإلا فكيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر والبغي، إذا لم يكن المصلي قد خرج من صلاته حاملا في صدره ضميرا يردعه عن تلك الآثام؟ إن آليات الصلاة في ذاتها - حركات وكلمات - لا تؤدي إلى الترفع عن رجس الفحشاء والمنكر والبغي، وإنما الذي يؤدي إلى ذلك «فهم» المصلي لأسرار ما يقوله وما يعمله.
وأعود إلى الأم السائلة: فأوجز ما أسلفته في عبارة قصيرة، هي: اجعلي أبناءك «يعرفون» عن الصلاة سرها، فينصرفوا من تلقاء أنفسهم عن المخادعة في الوضوء وغير الوضوء؛ لأنهم سيحملون ضميرا هاديا ورادعا.
الفلسفة شيء والدين شيء آخر
في هذا البحر المائج بالمعاني المضطربة الغامضة، لم يكن ليبدو لنا غريبا أن يختلط على الناس شيء بشيء آخر، لا سيما إذا كان بين الشيئين شبه قريب أو بعيد، فإذا كنت قد رأيت، حتى بين صفوة المثقفين، من يحسب الدين فلسفة، ومن يحسب الفلسفة دينا، لما أخذني عجب؛ لأنني أعلم أن حياتنا الراهنة المليئة بأزماتها، قد أرغمتنا على أن نتعجل أمورنا. ولا بأس في أن نفهم المعاني مغلوطة ومخلوطا بعضها ببعض، فلن يموت أحد بالسكتة القلبية إذا هو فهم الحرية على أنها عدالة، أو فهم العدالة على أنها ديمقراطية، أو فهم الديمقراطية على أنها تواضع، فكلها خيرات - وكلها طيبات - فهمومنا في حياتنا اليومية، أكثر جدا من أن تترك لنا شيئا من فراغ البال لنبحث في الفوارق التي تفصل هذه المعاني بعضها عن بعض. ولسنا كأسلافنا الأقدمين في وقوفهم عند أمثال هذه التوافه، بل عند ما هو أتفه منها، فأنظر إليهم - مثلا - وقد أزعجهم أن يختلط الحابل بالنابل، حتى لقد ضربوا به مثلا، فالحابل هو من صاد صيده بالحبال، والنابل هو من صاده بالنبال، وقد حدث يوما أن تزاحم الحابلون لصيدهم والنابلون، فاختلط بعضهم ببعض، ولم يتبين منهم أحد صيد من هذا وصيد من ذاك، وربما أخذ كل منهم صيد أخيه وانصرف، فماذا يؤرق هؤلاء الأسلاف من موقف يختلط فيه الأمر على هذا النحو، ما دام كل صياد قد عاد إلى داره ومعه نصيب من الصيد، سواء أمسكته الحبال، أم أسقطته النبال. ولكن لا عجب، فقد كانت حياتهم تنعم بالفراغ وبالطمأنينة، وأما نحن اليوم، فنقضي الساعات بحثا عن مواد طعامنا وطعام عيالنا، فأين هو فراغ الوقت الذي نبحث فيه عن الفرق بين الحرية والديمقراطية، أو الفرق بين العلم والفلسفة والدين؟ ثم لماذا وجع الدماغ في ما ليس طعاما يؤكل ولا دواء يشفي؟
أقول إنني ما كنت لأعجب من خلط بين المعاني في حياتنا الفكرية؛ لأنني أعلم عسر الحياة اليومية، وأعانيه مما يبرر ألا يشغل الناس أنفسهم بما يزيد حياتهم عسرا على عسر، لولا أنني كنت من ضحايا ذلك الخلط المتعجل الذي لا يعنيه أن يفرق بين المختلفات، خصوصا إذا كانت تلك المختلفات كلها مأخوذة من دنيا الفكر، وهي الدنيا التي لم يعد يقبل عليها أحد، فهات منها ما شئت، ولا تخش في ذلك بأسا، فكل الأفكار قد أصبحت عند الناس سواء.
Неизвестная страница