وكان الفتى يغسل توسلاته بعبرات شبابه ، ويصهرها بآهات صباه ... ولكن أخيل الذي يضطرم حزنا على بتروكلوس لم تأخذه رحمة في ابن بريام المسكين، وأخي هكتور الذميم! بل استل جرازه البتار وأهوى به على عنق الفتى، فطاح الرأس الطروادي الكريم!
وكان البطل الطروادي العظيم سترابيوس بن بلجون - رب البركات الذي يدين له بحياته أكسيوس رب النهر الشرقي الكبير - كان سترابيوس على مقربة من أخيل وهو يصرع ليكاون بن بريام، فجزع - شهدت الآلهة - على ابن الملك، وأحزنه ألا يرق أخيل لتوسلاته؛ ووقر في نفسه أن يقتص له من هذا الشيطان ويخلص الطرواديين منه، فيطير ذكره في الخافقين ويقترن اسمه بما لم يقترن به اسم أحد في العالمين. فيمم شطر أخيل والكبرياء تنفخ أوداجه، والغرور يشيع في أعطافه، ثم هز رمحه هزة المتحدي الخصيم.
وزجره أخيل فلم يزدجر، فانقض عليه انقضاض الحتف، وأخذه أخذ المنية، لا تجدي فيها إذا أنشبت أظفارها التمائم، ولا تدفعها الرقى، ولا تفلت من أقصدته ولو كان في برج مشيد!
وأرسل أخيل رمحه كالصاعقة، لو لقي الصخر لقده، أو الجبل لنفذ فيه، ولكن سترابيوس كان أرشق من أن يلقى الطعنة، فانزلق انزلاقة خفيفة أذهبت الرمح في الهواء، ثم هوى إلى الأرض فغاص فيها؛ ومن ثمة راح يداعب أخيل حتى أحنقه وحتى بلغ الغيظ منه، فامتشق ابن بليوس سيفه وصرخ صرخة رجفت لها السماء، وانصدع من هولها جانب الجبل، وهجم على سترابيوس هجمة رابية فلم يفلته، بل أرسل السيف في بطنه فخرج سنانه يلمع من ظهره، وبرزت الأمعاء فاجتمعت حولها أسماك الماء، تنوشها وتتغذى بها.
وريع سكمندر - رب النهر العظيم - إذ نظر فرأى ابن ضيفه المقدام يلفظ أنفاسه ويساقط نفسه، فدارت الأرض به، وضاقت عليه بما رحبت، وتجهم من توه لأخيل، وود لو انشق فابتلع ابن بليوس آخر الدهر، أو لو يأخذ هو سيفا فيقد به أضلاعه ويطيح به رأسه، ويريح العالم من بأسه. لكنه آثر كإله له وقاره، أن ينذر أخيل ويأخذه بالحيلة، فخاطبه من القرار ، فقال: «أخيل! يا ابن بليوس العظيم! أنا لا يهمني أن تصطلم الطرواديين جميعا، ما دام زيوس قد سلطك عليهم ورماهم بك، أنا لا يهمني من ذلك شيء، ولكن الذي يحزنني ويضيق به صدري هذه الجثث الكثيرة التي يعج بها عبابي، وينتشر منها الخبث في أرجائي؛ لقد أنتنت يا أخيل وخالطت عذوبة مائي، ولم يعد لي بها طاقة ولا عليها جلد، وهي إلى ذلك كادت تقف تياري وتشل حركتي، فهلم فارفعها عني، وقف التصريع والتقتيل حتى تطهر مجراي من أدرانها وحتى ألفظ أنا إلى البحر ديدانها ...»
وتبسم أخيل قائلا: «أما أن أقف هذه الحرب فلا سبيل إلى ذلك حتى آخذ بثأر بتروكلوس، وحتى أدك طروادة على رأس هكتور، فإما أن ألقاه فأقتله، وإما أن يلقاني فيقتلني، وأما أن أطهر مجراك من هذه الجثث الطافية فوقه، فليس لي الآن بذلك يدان، أو تضع هذه الحرب أوزراها.»
وحنق سكمندر العظيم وانطلق إلى أبوللو يكلمه في أمر أخيل، ولم يدعه أبوللو حتى أغراه بابن بليوس أعدى أعدائه وأشد شانئيه، وحتى أثاره عليه وهاج فيه كل حقد دفين. وعاد سكمندر فأشار إلى الماء فعلا وفاض، وإلى الموج فتلاطم وجرجر، وإلى الأواذي فدومت وهومت ولاحقت أخيل من ها هنا وها هنا؛ وفطن ابن بليوس إلى الخطر الذي أوشك أن يحيق به فهرع يحاول الفرار، ولات حين فرار؛ فقد أزبد الموج، وانساب العباب، وتشققت الأرض عيونا ومسايل، وعمقت اللجة، وبعد ما بين سطحها وبين قدمي أخيل، أو ما بينه وبين قرارها، فأطلق المسكين ذراعيه يسبح في أغوارها، ويتعلق بالجثث الطافية فوقها.
واشتد الخطب وعظم الكرب، وصرخ أخيل يستنجد أربابه، فما كادت حيرا تسمعه حتى فزعت إليه، وأمرت فلكان ابنها فانطلق يجفف الأمواه بنيرانه، ويرسل على الطوفان بدخانه، ويستعين في كل ذلك بآلهة الريح التي هرعت إليه من كل صوب تساعده، وكان زفيروس الكريم يهب على النهر اللجي سجسجا، ويذهب منه بكل مزنة مثقلة، وديمة محملة، فلم يمض غير بعيد حتى صفا الجو، وغيض الماء، وبرز أخيل يحمل عدته، فطربت الآلهة لنجاته، وانقض فلكان على سكمندر يحاول أن يثأر لأخيل منه، ولكن سكمندر يعاهد حيرا - إذا هي صدت عنه ولدها فلكان - أن يحصر الطرواديين بموجه، فلا يمكنهم من الدخول إلى مدينتهم، ويجعلهم بذلك هدفا لأخيل يصنع بهم ما يشاء! •••
وتثار الخصومة بين الآلهة لموقف فلكان من سكمندر، ويغيظ مارس من مينرفا أنها تؤيد فلكان وتحرضه على رب النهر المسكين الذي أفزعته النيران تأخذه من كل حدب، فتقدم إليها وطفق يقرعها وتقرعه، ويرميها بالمثالب وترميه بها، ثم تناول رمحه العظيم واستجمع كل قوته، وأرسله يود لو يقضي به على ربة الحكمة الحازمة، ولكن؛ ويل لك يا مارس! لقد ارتد الرمح فلم يستطع إلى درع مينرفا من سبيل؛ وانحنت الإلهة المغيظة فأخذت حجرا من أكبر حجارة الجبل وقذفت به مارس فدكت عنقه وقصمت ظهره وتركته على السفح الشاحب لقى من ألقاء هذه الحرب!
وظل مارس ممددا على السفح يخور ويئن ويتلوى بجثته العظيمة
Неизвестная страница