فإذا رجعنا إلى الموضوع الذي أردنا أن نضلع به في هذا الموطن، وأردنا أن نمضي في مقارنات نقتطعها من الآثار القديمة، كان لا مندوحة لنا عن الرجوع إلى القصص التي روتها التواريخ المعروفة، أو التي تنوقلت باللقاح عن الأمم السابقة، لنثبت أن لهذه القصة أصلا ميثولوجيا عند الأمم القديمة، أخذ يتنقل في أرحام الدهور، وتنتحله أمة بعد أخرى، حتى بلغ في القرن السادس بعد الميلاد مبلغه الأقصى، فصب في القالب الذي نقع عليه في القرآن.
على أننا نريد أن ننبه هنا على أن بحثنا هذا ليس له بالدين صلة، وليس له بالعقائد نسب، فهو بحث خالص لوجه الحقيقة، لأهل الدين أن يؤولوا منه ما يشاءون، ولأحرار الفكر أن يستنتجوا منه ما يستنتجون، وليس المقام مقام تقرير ولا هو مقام إثبات أو نفي، بل هو مقام رواية للقصص المختلفة التي قصت في الطوفان، ومقارنة بعضها ببعض تلميحا لا توضيحا، وسياقا لا قياسا، وللحقيقة لا للدعاية؛ لهذا نمضي في هذه المقارنات مستهدين بهذه النزعة، ولنا في نهايتها كلمة لعلها تكون فاصلة صريحة، لا نحتاج بعدها إلى استرسال في شرح، أو إطناب في بيان. •••
في كل التقاليد الميثولوجية، قديمة وحديثة تقع على قصص في الطوفان، تختلف في التفاصيل والأوضاع، ولكنها تتفق في الجوهر والغاية.
فقد أفنى الطوفان أمة خيالية قيل إنها عمرت أرض الإغريق القديمة في العصر البرونزي، وكانت أمة اتصفت بكثير من الخشونة والقسوة، فكان السبب في تحطيمها وإفنائها مشابها للسبب الذي أفنيت من أجله عاد وثمود. والفرق أن الأولين أهلكوا بالمياه الطاغية، والآخرين أهلكوا بريح صرصر عاتية. وروي أن «زوس» الإله اليوناني المعروف قال «لهرمز»: «سوف أرسل على الأرض مطرا عظيما، لم يصب الأرض مثله منذ أن استقر الكون على صورته هذه، وإن النوع البشري برمته سوف يفنى من جراء ذلك، فإن ظلمهم يتعبني ويمضني.»
وكان الإلهان زوس وهرمز قد تنكرا في صورة بشرية، فأضافهما رجل عجوز يقال له «ديو كاليون» وامرأته «بيرا»، وأحسنا وفادتهما، وقاما على خدمتهما والعناية بأمرهما. فلما أتى الطوفان نجيا جزاء إحسانهما للإلهين الكبيرين. وكانت نجاتهما بأن نصح «زوس» للعجوز بأن يبني فلكا من خشب البلوط ويخزن فيه من المواد الغذائية قدرا كافيا، فلما تم بناء الفلك، دخل الزوجان فيه وأغلقا وراءهما الباب، وهنا فتح «زوس» ينابيع الغور الأبعد وآبار الينابيع السماوية، وأخذت السماء تمطر، وظلت في تهطالها أربعين يوما وأربعين ليلة كاملة من غير انقطاع، وبذلك فني القبيل البرونزي، ولم يسلم منه حتى الذين لجئوا إلى قمم التلال العالية. واستوى الفلك على جبل «بارناسوس»
، ولما غيض الماء خرج الزوجان من الفلك وهبطا من فوق الجبال ولجآ إلى كهف اتخذاه سكنا لهما.
1
أما في الميثولوجيا الهندية فتجد عقيدة أن الدنيا لا بد أن يفنيها طوفان مجتاح، ينتابها في نهاية كل دور من الأدوار الكونية.
2
أما هذه الأدوار فأربعة:
Неизвестная страница