وإذا قرأت بقية أسفار موسى، وبالأحرى الأسفار المنسوبة إليه - خروج، لاويين، عدد، تثنية - تجد أنها مزيج من أخبار تاريخية تكثر فيها الأقاصيص، ومواعظ هي بين الأخلاقيات والإرشاديات. وفي جماع هذه الأسفار لا تقع على شيء من انسجام الوضع، ولا من دقة التاريخ، ومن كل هذه الأشياء يذهب دارسو العبرانيات والآثار في سلسلة طويلة من الأبحاث، يستنتجون منها في النهاية أن هذه الأقاصيص جمع وتوليف من أقاصيص وروايات أبعد منها زمانا وأعرق قدما.
يقول المستر ديكسون وايت:
من بين مجموعة النقوش الكاتدرائية، التي تعبر عن كثير من حقائق اللاهوت في العصور الوسطى، نقش يمتاز بالتعبير عن مذهب لاهوتي في أصل الكون، ظل موضع الاحترام والإجلال أزمانا طوالا.
الواحد القهار: في صورة بشرية، جالس بوداعة ولين، يصنع الشمس والقمر والكواكب، ويعلقها في القبة الصلبة التي تحمل من فوقها «السماوات العلا»، وتظلل «الأرض السفلى».
أما علائم التفكير الظاهرة في تقطيب جبينه فتنم على أنه أجهد نفسه إمعانا في التدبر والاستبصار، كما يدل انتفاخ عضلات ذراعيه على أنه قد اضطر إلى أن يكد وينصب. ومن الطبيعي أن يكون المثالون والمصورون خلال القرون الوسطى - وفي بدء العصور الحديثة - قد عمدوا إلى تمثيله على مقتضى ما تصوره كتاب ذلك العصر؛ إذ كانوا يقولون بأنه استراح في اليوم السابع، واضطجع في هدأة، مصغيا إلى تراتيل الثناء التي زفتها إليه سكان السماء.
من حول هذه الفكرات العتيقة التي فاضت بها الكاتدرائيات، وفي غيرها من الآراء التي عبرت عنها النقوش والصور وتلوين الزجاج وزخارف الفسيفساء والحفر خلال القرون الوسطى، وقرنين فرطا من بعد تلك العصور؛ تكشفت نواة من الاعتقاد كانت قد أخذت تتكون خلال ألوف من السنين، ومضت محتكمة في كل ما أبرز العقل الإنساني من صور الفكر حتى عصرنا هذا.
أما بدايات ذلك الاعتقاد فترجع إلى أعرق عصور التاريخ قدما، فإننا نجدها في أوليات كل مدنية من المدنيات العظمى. بيد أنها شغلت في كل الكتب المقدسة التي ذاعت في نواحي العالم - على تعددها وكثرتها - مكانا عليا، ففي كل المدنيات تقع على فكرة وجود خالق، ليس الإنسان إلا صورة منه غير كاملة، وأنه خلق الكون المنظور بطريقة مباشرة مستخدما في الخلق يديه وأصابعه.
من بين تلك النظريات عدد غير صغير مضى محتكما في اللاهوت الكلداني. ومن الواجب أن نخصه بشيء من العناية والتقدير؛ فإن النقوش الآشورية التي استكشفت حديثا، ونقلها إلى العالم الإنجليزي أعلام من أمثال لايارد وجورج سميث وسايس وغيرهم، لترينا أنه قد تغلغلت في تضاعيف الأديان الكلدانية والبابلية قصة في حقيقة الخلق من أهم مزاياها وأخطر وقائعها، إنها لا بد من أن تكون النواة التي فرخت منها تلك القصص التي نقع عليها في كتبنا المقدسة. ولقد ظهر بأجلى بيان أن تلك الفكرات التي تشغل أعلى مكانة في أسفار العبرانيين، قد استمدت من ذلك النبع الذي فاض على المدنيات الكلدانية البابلية والآشورية والفينيقية بتلك القصص التي وضعت في حقيقة خلق العالم.
ففي تينك القصتين اللتين تخالطتا في سفر التكوين، وفي تلك الرواية التي يمكن أن يستدل عليها بأشياء في سفر «أيوب»
Job ، يتمثل لك بكل ما يستطاع أن تتخيل من العظمة والقدرة، نفس ذلك التصور في حقيقة الخالق والخلق، وهو تصور خليق بالمدنية؛ إذ هي أبعد في مهد طفولتها وغرارتها، فيبرز لك الخالق في صورة بشرية مكبرة، وهو يكد في العمل بأطرافه ويمثل لك الخلق «مصنوعا بيده». ولقد نشأ - تعقيبا على هذا التصور - اعتقاد في الخالق، على أنه شخص بعد أن «قذف من راحة يده إلى الفضاء بكل السيارات لتجوب أنحاء المكان»، جلس في العلاء فوق العرش المستقر «على فلك السماء»، جادا أبدا في أن يحكم سيرها ويهديها طريقها.
Неизвестная страница