ظللنا صامتين فترة، ثم استدرجته لمتابعة الحديث، فقلت له: قد أفهم أن تمدك دراسة المعلمين العليا بالعلم الغزير، ولكن لا أفهم كيف جاءك منها تذوق الأدب والفن؟
فأجاب: لعلها مصادفات؛ فلقد شاءت المصادفة أن يبدأ لنا أستاذ الأدب الإنجليزي بشرحه لقصيدة ورد زورث التي نظمها عن النرجس الأصفر، والتي يقول في سطرها الأول ما معناه: «تجولت وحدي كالسحابة.» وأخذ ذلك الأستاذ يحلل هذا السطر وحده في درس كامل، مما جعلني أستمع إليه وأنا ذاهل لما يمكن أن يتكشف عنه بيت واحد من الشعر لو وجد الناقد الدارس الذي يفجر ألفاظه تفجيرا ليخرج مكنونها، ولم أكن أعهد فيما قرأناه وحفظناه قبل ذلك من الشعر العربي، لم أكن أعهد مثل هذا التحليل العجيب؛ فلو قلت الآن إن هذا الدرس الأول في النقد الأدبي، الذي تناول به الناقد المعلم الشارح سطرا واحدا هو فاتحة القصيدة، لو قلت الآن! إن هذا الدرس عن ذلك السطر الأول هو بذرة التحول عندي في قراءة الشعر كله والأدب كله، لما بعدت عن الصواب.
وربما شاءت مصادفة نكدة أن يجيء محاضر الأدب العربي في إثر ذلك الدرس الأول العجيب في الأدب الإنجليزي، فكان هذا المحاضر العربي شيخا يضع أمامنا أبياتا من الشعر الجاهلي وكأنه يقدم لنا أحجارا خشنة غلاظا لا تقوى على هضمها أقوى المعدات، ولا هو في وسعه أن يفك تلك الجلاميد لتخرج مكنونها أمام الأبصار، فبقدر ما كان الدرس الأول طاقة فتحت أمامي الطريق إلى سماء في الفهم الأدبي تعلوها سماء. كان الدرس الثاني - ولو بالمقارنة بما قبله - صارخا بأن تراثنا العربي يحتاج إلى أيد أخرى غير الأيدي التي كانت تعبث بذلك التراث وهي عجماء.
وكذلك كان لنا أستاذ في الفنون، لا أقول: إنه ذواقة للفن بحيث جاءتني منه العدوى؛ لأنني - حتى في تلك السن - كنت أدرك أن تعليقه على أعمال الفنانين ينقصها شيء من الحساسية، لكنني برغم ذلك أشهد له بأنه كان بمثابة من فتح أمامنا بابا وقال: هاكم المروج الفسيحة إذا أردتموها فادخلوا إليها من هذا الباب؛ ومن هنا بذرت في نفسي بذرة ربما كانت ضئيلة ضعيفة مقيسة إلى بذرة التذوق الأدبي؛ أقول: إنه من هنا قد بذرت في نفسي بذرة الالتفات إلى دنيا الفنون.
وقد أظلم نفسي إذا لم أذكر هنا بأن الحاسة الأدبية - متمثلة أول الأمر في الحس بالألفاظ وجرسها - قد انغرست عندي منذ الطفولة الباكرة التي قد لا تصدقني إذا حددت تلك الطفولة الباكرة بسن التاسعة أو العاشرة، وإنه لمن الأحداث المحفورة في ذاكرتي منذ ذلك الحين البعيد ما حدث لي ذات يوم وقد دعيت مع بقية أفراد الأسرة إلى حفلة زواج، وما كان أشد دهشة الحاضرين جميعا والحاضرات، وهي دهشة اختلطت معهم بضحكات الهزء والتصغير، عندما فاجأت الجميع بأن صعدت على كرسي في ركن الغرفة وأخرجت ورقة وأخذت أتلو خطبة التهنئة التي كنت قد أعددتها سرا.
أذكر ذلك لأستشهد به على ميل مبكر نحو صياغة اللفظ التي قد تكون عتبة الدخول في رحاب الأدب تذوقا وإنشاء، وربما كان هذا الميل المبكر عندي هو الذي جعلني ألتقط شعاع النور حين أرسله أستاذ الأدب الإنجليزي وهو يقدم لنا قصيدة ورد زورث، وهو الشعاع الذي أضاء لي طريق الأدب كيف يكون إبداعه وكيف يكون فهمه وتذوقه، فإذا كان جرس اللفظ هو الذي ملأ سمعي قبل ذلك، وهو أيضا ما أراد أن يؤكده في آذاننا شيخ الأدب العربي يومئذ، فإنني بعد ذلك الدرس الأول الملهم قد أدركت أن الأدب شيء آخر، يستخدم قوة اللفظ والعبارة بما فيها من تنغيم، ليجعلها أداة موصلة لذلك الشيء الآخر، وهذا الذي انغرس في نفسي عن الأدب، قد اتسع معي فيما بعد ليكون مبدأ عاما يشمل جميع الفنون.
ولقد ظهرت معي محاولات أولى منذ ذلك العهد، أمزج فيها بين النغم والمعنى، لعل من أوائلها حادثا عابرا كان أقرب إلى اللهو المازح منه إلى الجد البناء؛ وذلك أن مجلة مصورة في ذلك الحين - أظنها كانت مجلة «اللطائف المصورة» - قد أعلنت عن مسابقة يكتب فيها المتسابقون أسطرا لا يزيد عدد كلماتها عن أربعين كلمة - فيما أذكر - بحيث يصفون في هذه الأسطر القليلة ماذا عساهم صانعين لو علموا أن نهاية العالم ستكون بعد ساعة واحدة، فكتبت مع الكاتبين، وبالطبع لا أذكر ما كتبته، لكنني أذكر أنني قلت إنني لا أعمل شيئا، وما تزال ترن في أذني إلى اليوم عبارة وردت في أسطري، فقلت فيها: إنني وقد «وجدت الدقائق تمر سراعا، والقلب يدق تباعا»، مع ما تكاثر في خاطري مما ينبغي عمله في هذه الساعة الواحدة الباقية، لعجزت عن التنفيذ.
وجاءت نتيجة المسابقة بفوزي بجائزتها الأولى، وكانت جنيهين! لا، إنه لمن أفدح الخطأ ألا تقيس هذه الأمور بما يصاحبها من مشاعر وبما يحيط بها من ظروف، فأنا الآن حين أقول: إني كسبت جنيهين لا يسعني إلا الضحك كما أراك أنت الآن ضاحكا مما سمعت ...
أردت الاعتذار فقاطعني الأحدب قائلا: لا تعتذر؛ فهو أمر طبيعي لا غرابة فيه، لكنه هو نفسه الأمر الذي يميل بأبناء الحاضر أن يظلموا أسلافهم عند الحكم عليهم؛ فقد يقيسون أعمالهم بمقاييس عصرنا فيجدونها ضئيلة نحيلة فيهزءون! ما علينا من هذا الآن، كسبت ذينك الجنيهين من تلك المسابقة، فقل ما شئت عن فرحتي التي أحسستها بالفوز في ذاته أولا، وبالمال نفسه ثانيا.
ماذا تظن من موقفنا عندئذ من المال؟ بضعة قروش نتحرك في مجالها! وجاءني صديقان ممن كانت الصلة قد توطدت بيني وبينهم، يلحان في نزق الشباب وخفته أن نذهب جميعا، أنا وأخي والصديقان، لننفق هذين الجنيهين في «فسحة» نخططها لتستوعب كسبي كله، وكانت أول الخطة أن نذهب إلى مسرح يوسف وهبي.
Неизвестная страница