قال: لكني ما زلت أتساءل: لماذا كلما رأيت الفرق شاسعا بين ما رجوته لنفسي وبين ما حققته، وثبت إلى ذاكرتي عبارة أبي في تلك الليلة التي طمست بظلامها معالم الأشياء على مرتقى الجسر، مصحوبة بعثرتي التي عفرت وجهي وهشمت حلواي؟
كنت عندئذ في زيارة «الأحدب » عصر يوم من أيام الجمعة، ولما كانت نافذة غرفته مطلة تجاه الغرب، فإن أشعة الشمس قد سبقتني إلى غرفته، وفرشت له الأرض بمستطيل من ضوئها، دخلها خلال الستارة الرقيقة فكان رمادي اللون إلا عند بقع صغيرة تقابل خروق الستارة، وكان الشهر في أوائل الصيف، فلم تكن حرارة الشمس من الضعف بحيث تحتمل الجلوس في مستطيل الضوء، كما لم يكن في الغرفة إلا تلك النافذة الغربية فكان لا بد من تركها مفتوحة؛ ولذلك فقد جلسنا على كرسيين متباعدين بعض الشيء، يقع مستطيل الضوء بينها، فكان وهو يقص علي قصة الحصان المهشم، يميل على كرسيه أحيانا ويشير بذراعيه، فيحدث ظلا على مستطيل الضوء كثيرا ما كان يتخذ أشكالا غريبة، حتى لقد جعلت أنصت إليه بنصف انتباهي، وأتتبع تلك الأشكال الغريبة بالنصف الآخر؛ فالظل أحيانا على شكل بجعة تمط عنقها الطويل، وأحيانا أخرى على شكل أرنب مقع، وأحيانا ثالثة يصبح كالطائر الذي نشر جناحيه.
ولعلي قد تعمدت أن ألهو بهذا الظل وأشكاله حتى لا أربكه بتركيز انتباهي كله فيما يقول، فينطلق مر العبارة، ناضحا ذكرياته البعيدة من أعماق نفسه، ولقد اعتقدت أني بهذه القصة الصغيرة التي رواها، وقعت على مفتاح شخصيته التي أردت فتح مغاليقها والكشف عن أسرارها.
كان عند «الأحدب» جهاز صغير يصنع فيه الشاي وهو في غرفته، وهو إناء ذو قابس كهربائي، يضع فيه الماء فلا يلبث أن يغلي بحرارة الكهرباء، ولم يكد ينتهي من قصة الحصان، حتى نهض فملأ الإناء من صنبور في البهو، ووضع القابس في مقبسه من الحائط، وراح يخرج فنجاني الشاي من خزانتهما الصغيرة، ومعهما سائر الأدوات، حتى إذا ما أعد كل شيء وجلس على مقعده، نظر إلي فكأنما راعه صمتي وتصويب نظري إلى مستطيل الضوء لا أتحول عنه؛ لأنني كنت لا أزل أراقب ظل الأحدب وهو يعبر الغرفة، لأستخرج منه بخيالي كل ما استطعت من صنوف الحيوان.
ناولني فنجاني، وراح يقول استئنافا لحديثه السابق: إني لأذكر الآن موقفا آخر في طفولتي، وكنت عندئذ في الخامسة من عمري ...
قلت في هدوء: وكيف عرفت أنك كنت في الخامسة؟
قال وهو يبتسم: إنني أعتمد في تحديد مراحل عمري بالنسبة إلى الحوادث الباكرة في حياتي على المساكن التي سكناها؛ فالحادث الفلاني قد حدث ونحن في المنزل الفلاني، والحادث الآخر قد حدث ونحن في المنزل الفلاني، وهكذا، ثم أحدد تواريخ سكنانا في هذا المنزل أو ذاك مستعينا بشواهد معينة من تاريخ أسرتنا.
فقد كنا - وأنا في نحو الخامسة - نسكن منزلا في حي المنيرة بالقاهرة، أذكره الآن جيدا، وأذكر «خالتي أم محمد» - صاحبة المنزل وصديقة الأسرة - وهي تسكن منزلا على السطح، وأمام منزلها مسطح كبير مفتوح إلى السماء، فيه ينشر الغسيل، وفيه دكة خشبية كبيرة مشققة الألواح من لفحة الشمس، وتحتها تربض سلحفاة كبيرة، ولكم دخلت تحت هذه الدكة أمد ذراعي بين إقدام وإحجام حتى ألمس ظهر السلحفاة لمسة خفيفة ثم أسرع خارجا وأنا أقهقه قهقهة الغازي المنتصر.
وفي شقة من ذلك البناء كانت تسكن الأسرة، وقد حدث ذات يوم أن زارنا رجلان من الأهل أو من الأصدقاء لا أدري، لكن أحدهما ما تزال صورة شاربيه عالقة بذاكرتي، لا لكبر فيهما، ولكن لاهتزاز في أطرافهما غريب كلما حرك الرجل شفتيه بالكلام أو بالضحك، ودعاني أبي من الداخل لأحيي، وكان قد حفظني عن ظهر قلب ماذا أقول عند التحية وبماذا أرد التحية، وكثيرا ما كنت أخطئ فألقى اللوم إما ساعتها أو على انفراد، كما حدث يوما حين ناولني أحد أصدقائه شيئا قائلا: تفضل، فأجبته بكلمة «العفو»، وأعاد الرجل قوله «تفضل» وهو يضحك، فأعدت جوابي بكلمة «العفو»، فأمهلني أبي حتى انفرد بي وأخذ يقرعني على هذا الخلط المعيب الذي خلطت به كلمة «العفو» بكلمة «متشكر».
دعاني أبي يومئذ من داخل البيت لأحيي ذينك الرجلين، وحييتهما بما حفظت من عبارات التحية.
Неизвестная страница