وكانت تقارير القناصل الأوروبية، وخاصة تقارير «مالت» قنصل إنجلترا، تصور الحركة العرابية ونموها صورة مشوهة قاتمة، وتدعو الدول، وخاصة إنجلترا، للتدخل السريع الفعلي لحسم الموقف وإيقاف مطامع المصريين عند حدها، وثارت ثائرة فرنسا وإنجلترا بوجه خاص عندما أعلنت وزارة محمود سامي البارودي دستور 7 فبراير سنة 1882، وعندما أحستا أن الثائرين يفكرون جديا في خلع توفيق بعد أن فقدوا الثقة به، وعند ذلك اقترح «فريسنيه» وزير فرنسا الأول أن ترسل الدولتان أسطولا مشتركا للمياه المصرية لإرهاب وزارة البارودي كي تقف بأطماعها عند حد، ورحبت إنجلترا بالاقتراح؛ فهذه فرصتها المواتية التي ظلت تحلم بها أجيالا طويلة.
وأبحر أسطول فرنسي وآخر إنجليزي إلى مياه الإسكندرية، وأوعزت الدولتان إلى قنصليهما ألا يعترفا إلا بسلطة الخديو، وأن يطلبا منه إقالة الوزارة، وتردد توفيق كعادته، ولكن الوزارة عند تحرج الموقف اضطرت إلى الاستقالة، وإن كان الجيش قد أصر على بقاء عرابي.
وتحرج الموقف شيئا فشيئا، وزاد سخط المصريين، وزاد ضغط الدولتين للتدخل في شئون مصر وحدهما، وأثار وجود الأسطولين في مياه الإسكندرية شعور المصريين، ووسط هذا كله انتشرت الشائعات، وشاعت الأراجيف أن الأساطيل الفرنسية الإنجليزية ستعمل على ضرب الإسكندرية، فعم الذعر الأهلين.
ولم تكن هذه الشائعات بعيدة عن الحقيقة؛ فقد كان الأسطول الإنجليزي بوجه خاص يمهد جادا لضرب الإسكندرية، ولكنه كان يبذل الجهد ليتخلص من الشريك المنافس ولينفرد وحده بضرب المدينة، ولا عبرة لما يقوله بعض المؤرخين الإنجليز بأن «سيمور» أمير الأسطول البريطاني تصرف من تلقاء نفسه ليحقق لشخصه مجدا ذاتيا، فإنهم يقولون إن الأوامر كانت قد صدرت إلى أسطول بحر المانش كي يبحر لينضم إلى أسطول سيمور، وكان الأميرال دويل
Dowell
قائد أسطول المانش أرقى منصبا من «سيمور»، فإذا انضم الأسطولان كانت القيادة لدويل، وبذلك ينسب شرف الانتصار إليه إذا تم للأسطول البريطاني الانتصار عند ضرب قلاع الإسكندرية؛ لهذا أسرع «سيمور» بضرب الإسكندرية.
ولكن تطور الحوادث يثبت إثباتا قاطعا أن الأسطول الإنجليزي خرج ولديه خطة واضحة للعدوان، وعليه أن يستغل الأحداث والأسباب، فإن لم يجد مبررا فعليه أن يلتمس الأحداث والأسباب وأن يختلقها اختلاقا، والمبررات التي التمسها «سيمور» لضرب الإسكندرية فيها الدليل كل الدليل.
هذه المبررات تتلخص في أن المصريين بدءوا يعملون على تقوية حصون الإسكندرية وترميمها وتقويتها، واعتبر «سيمور» أن هذه الاستعدادات تهديد لبوارجه وأسطوله الواقف في ميناء الإسكندرية.
واعجب معي لهذا الذي قيل، واذكر معي قصة الحمل والذئب ليتضح لك وجه الباطل في هذا الذي قيل، وإلا فكيف يعقل أن يقترب اللصوص من داري فإذا عملت على تقوية أبواب الدار وإصلاح أقفالها وترميم نوافذها للدفاع عن الدار إذا فكر اللصوص في اقتحامها أو سرقة ما بها قيل لي أنت المدان، ففي هذه الإصلاحات والاستعدادات اعتداء على هؤلاء اللصوص وتهديد لكيانهم، فإذا لم توقفها اضطروا لاقتحام الدار دفاعا عن أنفسهم!
إنني لا أبتدع هذا القول ابتداعا ولا أرويه على سبيل الفكاهة، ولكنه الحقيقة كل الحقيقة، هذا ما قاله الأميرال الشجاع «سيمور» للحكومة المصرية، ولم تبلغ فرنسا من الذكاء ما بلغه «سيمور» في ذلك الوقت، فاجتمع مجلس وزراء فرنسا وقرر أنه لا يستطيع أن يصدر أوامره إلى الأميرال «كونراد» قائد الأسطول الفرنسي بالاشتراك مع «سيمور» ليمنعا بالقوة بناء الحصون أو نصب المدافع في قلاع الإسكندرية، وأخبر مسيو «فريسنيه» رئيس وزراء فرنسا سفير إنجلترا في باريس أن الحكومة الفرنسية تعتبر هذا التصرف لو تم عملا عدائيا هجوميا ضد مصر، والاشتراك في مثل هذه الحرب فيه إخلال بنص الدستور الذي يحظر الدخول في حرب دون موافقة مجلسي النواب والشيوخ، وتبع هذا أن أرسل «فريسنيه» إلى «كونراد» قائد الأسطول الفرنسي يأمره ألا ينضم إلى «سيمور» إذا وجه إنذارا نهائيا للمصريين بشأن التحصينات، وإذا أصر «سيمور» على ضرب المدينة فإنه يجب على «كونراد» أن يتراجع بسفنه وألا يشترك مع «سيمور» في هذا الضرب.
Неизвестная страница