وأخيرا في عهد جمعية الأمم السابقة عرض على الأمم المستعمرة في فرص عدة أن تنزل عن مستعمراتها؛ لتضعها تحت السيادة الدولية فرفضت كلها بلا استثناء، غير أنه ما دام على ظهرها أمم غالبة وأمم مغلوبة، فلا رجاء في التعاون بإخلاص، وكأني بالأمم المغلوبة على أمرها تقول للقاهرين دعاة السلام: أنظرونا نتحلل من ذل التبعية، ثم شأنكم والسلام الدائم؛ قرروا فيه ما تشاءون.
بقي أن نشير إلى أن بعض الكتاب السياسيين يرون أن الاستعمار والوطنية أمران متلازمان، وأن من العسير أن يحب قوم وطنهم دون أن يقترن هذا الحب بالاستعلاء على الأمم الضعيفة، أو دون أن يبغضوا غيرهم، هذا قد يكون حقا في أمر الوطنية الحادة الجامحة التي هي من سلالة عصبية القبيلة، أما الوطنية المدنية أو وطنية المستقبل التي يسيطر عليها التدبر العقلي فإنها لا تتنافى مع حب الإنسانية جمعاء، والواقع أننا نرى الرجل الفاضل مع حبه لنفسه يسعى إلى سعادة غيره، فلا مانع إذا يمنع قوما يحبون وطنهم، من أن يسعوا في إسعاد الأوطان الأخرى! (5) التعاون العالمي ممكن
أيها السادة، نسوق كل هذه المقدمات للوصول إلى نتيجتين:
الأولى:
أن التعاون العالمي ممكن متى اقترن به إلغاء الاستعمار على الوجه الذي ذكرناه.
الثانية:
أن أدب السياسة الدولية الذي جرى عليه العرف إلى الآن بعيد عليه أن يحقق التعاون العالمي، بل لا بد لهذا التعاون من أدب دولي جديد.
ونظرا لأن أسباب الحروب مهما اختلفت مردها كلها إلى الحالة البسيكولوجية للأمم وعلى الخصوص الحالة الأخلاقية لقادة الأمم، نظرا إلى ذلك قد بحث أنصار السلام في الوسائل التي تؤدي إلى منع الاعتداء من جانب أمة على أخرى، وإن أوفى بحث أعرفه في هذا الصدد تلك المحاولة الجريئة الموفقة التي حاولها الكاتب المعروف الدس هكسلي في كتابه «الغاية والوسائل»، لم يقنع هكسلي بطريقة «كنت» التي لا يزال الساسة يسيرون عليها سواء أكان ذلك في جمعية الأمم السابقة أم في النظام العالمي المستقبل، بل هو يرمي إلى أعمق من ذلك أثرا وأبقى على الزمان بقاء، وهو أن يسعى الأفراد والجماعات والحكومات إلى تربية الجيل على صورة تتدرج نتائجها للوصول إلى الإنسان المثالي، جعل هكسلي هذا المثل الأعلى في الإنسان الذي سماه «الإنسان اللامرتبط» في ذلك الإنسان غير المرتبط بإحساساته ورغباته الجسمية غير المرتبط بشهوته في السلطة والحيازات المختلفة، غير مرتبط بموضوعات هذه الرغبات المختلفة، غير مرتبط بغضبه وحقده، غير مرتبط بحياته الخاصة، غير مرتبط بالثروة ولا بالمجد ولا بالوضع الاجتماعي، غير مرتبط حتى بالعلم وبالفن وبالتأمل المجرد وبحب الإنسانية، بذلك يصل المرء إلى حيازة جميع الفضائل، وإن عالما مؤلفا كله أو جله أو على الأقل قادته من أفراد لهم هذه الفضائل، لجدير بأن يسمى العالم الكامل، غير أن هكسلي لم يخدع نفسه على إمكان الوصول إلى تلك الوسائل التي تربط نظريات السياسة الداخلية والسياسة الدولية والحرب والاقتصاد والتربية والدين والأدب؛ كل أولئك بنظرية الطبيعة الآخرة للحقيقة، بل قال في آخر كتابه: «لا شك أن هذه المهمة قد نفذت على وجه ناقص، على أني لا أعتذر عن محاولتي إياها فإن رسم مذهب ولو رسما جزئيا خير من العدم الكلي.»
ونحن من جانبنا نترك إلى الزمان الطويل تحقيق الرغبات الشريفة لهذا المؤلف، ونقبل على مذهب أقرب تناولا ونقنع بالهدف الحاضر، وهو التعاون العالمي الذي ارتضته السياسة الدولية للأمم المتحدة، فماذا ينبغي أن تكون الأخلاق لتحقيق هذا التعاون؟
إذا كان هكسلي يعتد هكذا بسمو النفس الإنسانية في طبيعتها إلى حد أنه يرى من الممكن أن تتحقق نظرياته، فليس في ذلك إلا قريبا جدا من رأي الفيلسوف «كنت» في سمو الطبيعة الإنسانية حين يقول: «ليس في الاستعدادات الطبيعية للإنسان شيء من مبدأ للشر، وإن السبب الوحيد للشر هو ألا يرد الطبع إلى قواعد، إلا أن الإنسان ليس فيه من أصل إلا للخير، ليس لهذا المعنى فقط أرى أن أختار منهاج «كنت» مرجعا لصورة هذا البحث الذي بحثه، بل أيضا لأنه صاحب فكرة الحكومة الدولية العامة، وبهذه المثابة قد يكون منهاجه الأخلاقي أقرب المناهج نسبا للتعاون العالمي، وقد يكون فوق ذلك هو المناسب لاعتقادات الناس في هذا الزمان.
Неизвестная страница