طبعنا على حب الكمال في حياتنا ومعاداة كل العوارض التي تعرض لنا في طريق المثل الأعلى للمعيشة المستكملة وسائل الحرية وآثارها، ولا خيرة لنا فيما طبعنا عليه، وسواء أكان هذا الشوق الطبيعي إلى حياة الحرية مصدر سعادة أم مصدر شقاء، فإنه على كل حال نار تتأجج بين ضلوع الحي لا تبرد أو تصل به إلى المرغوب، أجل، إن المثل الأعلى ليس نقطة ثابتة، ولا غرضا محدود المسافة يمكن بلوغه، بل كلما بلغناه انتقل شبحه أمامنا إلى نقطة أخرى على بعد مرمى النظر لسنا بالغيه ولا منصرفين عن التشبث بتركه، بل تسوقنا إليه حاجة لا قبل لنا بالصبر عن قضائها، ولو كلفنا أن نركب متن التعسف!!
ولهذا يستغلق علينا فهم الأباطيل القديمة التي كانت الغطرسة الجنسية تأخذ بها الكتاب؛ ليسقطوا في هاوية التناقض.
يقولون: إن بعض الناس خلق للسيادة أبدا، وبعضهم خلق للعبودية أبدا، ولا نزال نرى هذا خطأ يتردد في آراء الساسة المستعمرين على صورة أقل شناعة، وبعبارة أكثر ائتلافا مع مدنيتنا الحديثة، يضعون أصابعهم في أعينهم؛ إذ تكون النتيجة المنطقية النهائية لهذه المقدمات الصادقة هي هذه الجزئية: «بعض الإنسان لا إنسان.»
كذبت فلسفتهم
كذبت فلسفتهم، وصدق الذي يشعر به كل إنسان منا في نفسه من الميل إلى الرقي في كل شيء، وإلى الحرية قبل كل شيء، صدق هذا الأثر الذي نجده في طليق الأسير أو السجين يوم إطلاقه، وفي محاولة المعقول أن ينشط من عقاله، صدق ذلك الألم الذي يجده ذو الفكرة العلمية من حبس حريته عن التصريح بها، فتظل تجول في نفسه، ويغلي في صدره حب أبدانها، ويقلق ذلك خاطره، ويكد ضميره، ويحتوي على كل مشاعره، حتى يفضل الموت في إرضاء هذا الحب على الحياة في كتمانه، وكم من عالم استحب الموت على الحياة في سبيل حبه لحريته العلمية، فمنهم من قتل، ومنهم من أحرق، ومنهم من حبس أو عذب، وجلهم من تلك الأمم التي يقولون: إنها خلقت لغير السيادة. فإذا وجدت عبدا لم يؤثر الحرية على العبودية، ولم يطلب نفسا بالعتق من الرق، فذلك مثل من الأمثلة النادرة في بني الإنسان، وليس قاعدة يصح الأخذ بها.
إن الذي يراجع الماضي لا يجد أمة من الأمم المخلوقة للعبودية - كما يزعمون - إلا قاتلت عن حريتها، وإذا كان أصدق المعلومات هي تلك المعلومات التي تقدمها لنا المشاهدة الواقعة، فالإنسان - على الرغم من فلسفة المستعمرين - حر بطبعه، ميال إلى الحرية، ميال إلى الارتقاء فيها إلى المثل الأعلى، وفي سهولة الوسائل الموصلة إليه.
الحرية طبيعة
الحرية طبيعة وميل الناس إلى تحصيلها طبيعي بالضرورة، يشتد ويظهر مع القوة الحيوية ويضعف وتخمد آثاره مع الضعف، فكما أن القوي لا يموت جوعا كذلك لا يصبر على الحياة البعيدة عن المثل الأعلى للحرية.
ولقد أصبحنا في بلادنا ندرك الحرية بمثلها الأصلي الذي يأتلف مع شرف الإنسان في هذا الزمان؛ فقد أصبحنا نمتعض من كل فكرة ومن كل قانون ومن كل عمل يمس الحرية الشخصية أو يعطل استعمال الحرية والمدنية في غير الحدود المتفق عليها في أعلى البلاد مدنية، وأصبحنا كذلك نرى أن الحكومة المعقولة الوحيدة المطابقة لشرف الأمة هي حكومة الدستور، ومنا من لا يخشى أن يصرح بأن استقلال الأمة هو الطلبة الكبرى التي يجب أن توجه إليها قوى الشعب بأسره، فلم يبق علينا للتدرج في مراقي الحرية والتقريب من مثلها الأعلى المتفق عليه بيننا، إلا الوسائل المنتجة؛ فإن إدارة الأمر شيء، والقدرة عليه شيء آخر.
أما القوة فإن طبيعتها تختلف في كل زمان ومكان؛ تبعا لطبيعة عيشة الأمة واعتقاداتها الدينية وعاداتها وأخلاقها، ونتيجتها تختلف دائما باختلاف طبيعة الوسائل التي يمكن استخدامها، وعندنا أن أول مظهر للقوة هي القوى المعنوية، قوة الحرية العلمية؛ فإن الآراء العلمية ليس من شأنها أن تجد من القوة القاهرة - خصوصا في الأزمان الحاضرة - معارضة تذكر، فإذا استخدم المتعلمون إرادتهم في إظهار حريتهم العلمية ، كان لهم من ذلك مرانة تنفعهم في تربية أخلاق الشعب وتعويده على حرية الرأي والصبر على الأذى الذي ينتج دائما عن حرية الرأي؛ سواء أكان من الحكام أم من المحكومين.
Неизвестная страница